أخبرتك بالأمس أن “ناصر” كان يدعو والدي في لقاءات خاصة بمنزله بعد الإفراج عنه للتخفيف من حدة إعتقاله ، بل أنه قال له مرة صراحة: “أنا بحاول معالجتك نفسياً”!!
ولكن الصداقة بينهما لم تعد كما كانت بل أصبحت رسمية أكثر بدليل أختفاء كلمة “جيمي” التي كان أبي ينادي بها “ناصر” قبل القبض عليه !!
وأسألك : هل سمعت أو قرأت في حياتك عن زعيم يقوم بدعوة من حبسه إلى بيته على سبيل المجاملة ؟؟
المؤكد أن هذا الأمر لم يحدث من قبل أبدا .. لا في مصر ولا في غيرها.
وهناك واقعة أخرى حدثت أيضاً في نفس العام ١٩٥٤ وفيها سارع “ناصر” إلى تقديم إعتذار رسمي للكاتب الكبير .. وكان ذلك في شهر سبتمبر حيث فوجئ بالبوليس الحربي يقتحم بيته ويلقي القبض عليه بعد إتهامه هذه المرة بالتجسس !!
وكانت هذه مفاجأة كبرى لوالدي .. تهمة غريبة وشاذة توجه إلى الكاتب الوطني كتاباته وقوداً للثورة ، ثم أن علاقته بينه وبين “ناصر” كانت على ما يرام .. فما الذي جرى ؟؟
وذهب البوليس الحربي بوالدي إلى السجن الحربي وما أدراك بالأهوال التي كانت تجرى في هذا السجن ، وكان يسمى “باستيل مصر” .. وقائده “حمزة البسيوني” المعروف بلسانه “الزفر” وسوء معاملته للمعتقلين.
واستقبله قائد المعتقل بويل من الشتائم بعدما قال له هو أنت جاي تاني يا ابن “….” المرة دي هتعرف يعني إيه السجن الحربي !!
عاملتك كويس في المرة الأولى لأنه كان هناك توصية بذلك .. لكن الوضع أختلف يا ابن “…”
وفجأة دق جرس التليفون ، وانقلب حال “حمزة البسيوني” رأسا على عقب وهو يقول لمحدثه : حاضر يافندم ، تحت أمرك .. أوامر سيادتك .
وتعجب والدي من هذا الإنقلاب الذي جرى لهذا المجرم بذيء اللسان ، وتساءل من هو محدثه على الهاتف ، وجاءته الإجابة على الفور و”حمزة البسيوني” يقول له : تليفون علشان حضرتك يا فندم !!
(ولاحظ كلمة يافندم وحضرتك وقبل دقائق كان يسبه بأقذع الألفاظ)
وتناول والدي سماعة الهاتف وكان محدثه “جمال عبدالناصر” الذي قال له : إحنا آسفين قوي مما جرى لك ، هتخرج من السجن حالا ودلوقتي .. أنا أصدرت أوامر بذلك ، وما جرى غلطة فظيعة لابد من محاسبة مرتكبها .. و”عبدالحكيم عامر” بجانبي سيقدم لك أعتذار باسم الجيش.
وخرج أبي الحبيب من السجن ولم يمكث إلا ساعات معدودة .. ومفيش معتقل سياسي غيره ذهب وراء الشمس ساعتين او ثلاثة فقط ثم خرج !!
وبالطبع كان قائد السجن الحربي في “نص هدومه” بالتعبير المصري ، يعني لا يعرف كيف يعالج الحماقة التي ارتكبتها في حق الكاتب الكبير وكرر كلمة أنا آسف .. أنا آسف مرات عدة ، وقام بتوصيله حتى باب السجن الخارجي وهو مالم يفعله مع أي “زبون” آخر جاء عنده !!
ولم يرد عليه والدي بل كان ينظر إليه بإحتقار وعاد إلى بيته وعودته كانت مفاجأة بالطبع لأهل البيت كلهم ، لكنه لم يكن سعيداً وتساءل بينه وبين نفسه : مصر كلها عرفت بأعتقالي ووصلت أخباري إلى قائد الثورة لأنني كاتب شهير ومعروف في المجتمع كله .. فما بال مصير أخرين لا يعرفهم أحد وتلفق لهم الإتهامات الظالمة على غرار ما حدث لي ؟؟
وهناك حكمة شهيرة تقول: “رب ضارة نافعة” .. ومن يومها ركز الكاتب الكبير جهده في كتابة الروايات والقصص وأصبحت شغله الشاغل .. وكانت الكتابة السياسية محور أهتمامه حتى ذلك الوقت ، ولكن أصبحت في المرتبة التالية بعدما تأكد أن الكتابة فيها طريقها مسدود مسدود يا ولدي وعليه أن يكتب بألف حساب ، وظهر “إحسان عبدالقدوس” نجم جديد في مجال الأدب والروايات ولم يكن معروفاً قبلها.