وأخيرا ظهرت نتيجة البكالوريوس في شتاء عام 1979 وأصبحت طبيب امتياز أنعم وأكرم في مستشفى الحسين الجامعي ولمدة 12 شهر كاملة.
وبعد الاستلام ذهبت من فوري للطابق السادس والأخير بالمستشفى وهو الطابق الغامض الذي لم نقترب منه ونحن طلاب نتعلم في أقسام المستشفى المختلفة، فهو خاص بسكن الأطباء المقيمين والأطباء الامتياز، وعليه حراسة مشددة لمنع دخول من ليس له صفة كالطلاب وغيرهم.
نعم كان الطابق غامضا أتخيل ما فيه وأنا طالب ممنوع من الصرف أي ممنوع من الدخول. ولكني الآن أصبحت لي صفة، طبيب امتياز على سن ورمح له الحق في سكن خاص بالطابق الذي يحرسه الحراس!
ودخلت لأول مرة أتفقد الطابق فصعقتني المفاجأة، فهو مقسم لغرف بطول الدور على الشارع، غرفة لكل طبيبين مقيمين، وثلاث قاعات داخلية كبيرة لأطباء الامتياز، في كل قاعة أكثر من عشرة أسرة أو أكثر على ما أذكر، وكأنها عنابر مساجين !! شعرت بالمهانة لمستوى هذا السكن المتواضع بالنسبة لأطباء جدد يجب الاحتفاء بهم، وشعرت بالطبقية المستبدة الواضحة بين قاعاتنا الجماعية الداخلية وبين غرف الأطباء المقيمين المستقلة على الشارع، والتي يمكن منها رؤية ميدان الحسين نفسه، أما آخر قاعة من قاعاتنا، فيوجد بها شباك عريض يطل على حي الباطنية، وهو الحي الأشهر في تجارة المخدرات في ذلك الوقت، وشتان ما بين الحسين والباطنية! .
سلمت أمري لله وتسلمت سريرا ودولابا وأنا محبط أشد الإحباط، فلم أكن أتخيل أن أول عهدي بعالم الأطباء سيكون بهذه البهدلة! غير أنني وزملائي كنا نجعل هذه القاعات بقدر الإمكان، قاعات مرح وسعادة، نحكي لبعضنا البعض ما يحدث في الأقسام المختلفة، سواء في تفاصيل العمل أو الأطباء أو الأساتذة وغيرهم. وأحيانا نقضي أوقات الفراغ والنبطشيات في لعب الكوتشية خاصة البريدج الذي راج رواجا شديدا، وتعلمه معظم زملائنا بالمستشفى!. وكنا نخرج من هذا السكن المتواضع لأماكن عملنا في أقسام المستشفى والطواريء وغير ذلك ونحن فخورين بأنفسنا، وكنا بالفعل محدثين طب ! ألسنا أطباء؟! ونسير بزهو وتؤدة ورزانه كالطواويس؟ مزدانين بالبالطو الأبيض المقدس؟! ويا أرض اتهدي، فمن مثلنا فيك؟! وهو شعور لا يعرفه إلا من كان طبيب امتياز يوما.
إلا أنه لفت نظري ثم شغل بالي وجود غرفة متسعة من نهاية السكن فيها شرفة تطل على منظر عريض هائل، على حديقة الأزهر، ويمتد حتى آخره في قلعة محمد علي وجبل المقطم شخصيا. بل وتكتمل مزايا هذه الشرفة العجيبة بعدم وجود سقف لها، أي من يجلس فيها يكون (منه للسما)!! شيء مبهر فعلا. وبالسؤال والتحري علمت أن هذه الغرفة بشرفتها اسمها (الهيلتون) لأنها تشبه شرفات فندق هيلتون القاهرة التي تطل على النيل!
وقررت محاولة السكن في هذه الغرفة الخرافية كيفما كان الحال، ولكن مع أول جولة استكشافية تيقنت أن الأمر دونه قطع الرقاب، وأن الذين يسكنون في الغرفة أطباء مقيمون لا يسمحون لأحد بالاقتراب أو حتى بإطلالة قصيرة من شرفة الهيلتون خوفا من الطمع وتداعياته! أمام ذلك لم يكن أمامي من سبيل غير رشوة كبير العاملين بالسكن ليفتح لي الغرفة عندما تكون خالية في الصباح، لأتفقدها وأطل من شرفتها ولو لمدة خمس دقائق فقط. وهذا ما حدث، ووقفت في الشرفة مشدوها بالمشهد الهائل اللانهائي أمامي، إنها بالفعل أفضل من شرفات الهيلتون، وأول من أطلق عليها هذا الاسم له الحق مائة في المئة, بل أن من يسكنون هذه الغرفة لهم الحق في الدفاع عن ملكيتهم لها، ولو خاضوا في سبيلها معارك داحس والغبراء!
حدثت نفسي ألا أحزن، فسوف يكون أحد أسرة الهيلتون من نصيبي يوما بإذن الله عندما تنتهي فترة الامتياز، وأصبح طبيبا مقيما بالمستشفى له قوة ومنعة وحقوق، ساعتها سأخوض ما يلزم من معارك طاحنة للإقامة بالغرفة، وأحقق حلمي أخيرا بأن أجلس في الشرفة (الهلتونية) مستمتعا بكوب من الشاي بالنعناع الصاحي، وأنا أنظر للمشهد الخيالي والمنظر الرائع الممتد على مدى الأفق العريض الصبوح نهارا أو المتلألئ ليلا.
مرت سنة الامتياز وأنا مطمئن لتحقيق الحلم، إلا أنه لم يتحقق نهائيا، فقد تم تعييني طبيبا مقيما بوحدة جراحة المخ والأعصاب بمستشفى باب الشعرية الجامعي، وليس في مستشفى الحسين التي لا يوجد فيها هذا التخصص. فطار حلمي في الهيلتون كالطيور المهاجرة، وطارت معها آمالي فيه، ولم أعد لمستشفى الحسين مرة أخرى، والأمر لله وحده.
وسارت الحياة معي كما شاء الله لها أن تسير سنوات وسنوات وسنوات طوال، تعبت من عدها، حتى تم افتتاح قسم لجراحة المخ والأعصاب بالمبنى الجديد بمستشفى الحسين الجامعي بعد ردح من الزمن، وأصبح القسم مقرا لعقد امتحانات الماجستير والدكتوراه لجراحة المخ والأعصاب لكليات طب الجامعة، فكنت أذهب وأنا أستاذ لحضور الامتحانات كعضو في لجنة الممتحنين. وكلما ذهبت واقتربت بسيارتي من المستشفى، أنظر من بعيد للهيلتون، وأتذكر أيامه التي خلت، وحلمي الضائع فيه. ورغم أنني على مدى السنين الطوال، نزلت في هليتون النيل نفسه في مناسبات شتى، بل في أفخر الفنادق في مصر والخارج بدواعي العمل أو المؤتمرات أو الفسحة، ولها جميعا شرفات تطل على مناظر خلابة، إلا أنني مازلت حتى الآن أفتقد إطلالة شرفة الهيلتون بمستشفى الحسين الجامعي، التي كلما رأيتها، ألقي عليها السلام بشجن عميق، وعلى أيام الشباب في المستشفى، ودموع حارة تترقرق لماض ذهب وتولى، تاركا خلفه لي حقائب الذكريات…