نستقبل بفضل الله ـ عز وجل ـ عامًا هجريًا جديدًا نرجو نفعه ، ونأمل خيره ، وندعو الله ـ عز وجل ـ أن يجعله عام أمنٍ وأمان وسلْمٍ وسلام على الأمتين الإسلامية والعربية ، بل على الدنيا جميعًا.
ونحن عندما نتكلم عن الهجرة النبوية المشرفة لا نتكلم عنها من خلال السرد التاريخي لها ولكن نتكلم عنها من خلال بيان الجوانب المشرقة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم تربية الأمة عليها ، وكان من بين هذه الجوانب التربوية ، التنشئة على مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق ، بفعله وسلوكه وحاله ، لا بمجرد كلامه ومقاله.
وهكذا ينبغي أن تكون القدوة إذ من السهل علينا أن نؤلف كُتبًا في التربية أو نعد خطبًا في هذا الشأن ، ولكن كما يُقال ( يظل هذا العمل حبرًا على ورق ) ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض ، ما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته وأفعاله هذه التعاليم وتلك المعاني .
والهجرة أيها السادة كانت واقعًا عمليًا علمنا جملةً من أخلاق الإسلام والتي كان من بينها :
خلق الأمانة ، فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في قومه قبل الرسالة وبعدها مشهورًا بينهم بأنه الأمين ، شهد بذلك مَن ناصبوه العداء فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : أخبرني أبو سفيان أن هِرَقلَ قال له : سألتُك ماذا يأمُركمْ فَزَعمت أنه يأمُرُ بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.
قال: وهذه صفة نبي.
لذا كان الناس يحفظون ودائعهم عنده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما أذن الله ـ عز وجل ـ له بالهجرة إلى المدينة المنورة وَكَّل عليَّ بن أبي طالب بردِّ الودائع إلى أصحابها ، حتى ولو كانوا من أعدى أعدائه ؛ لأن الأمانة تُرد إلى البر والفاجر.
وهكذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثال في أداء الأمانة وفي نبذ الخيانة ، ولم لا وهو القائل : (( أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تخن من خانك ))
هذا ويتسع مفهوم الأمانة في الإسلام ليشمل كل مناحي الحياة فالكلمة أمانة وحفظ الحقوق أمانة والتكاليف الشرعية أمانة واداء المهام والأعمال بجودة وإتقان من اعظم الامانات.
فكأني بالهجرة النبوية الشريفة تناشد كل عامل في عمله وكل صانع في صنعته وكل ذي مهنة في مهنته رعاية الحقوق والمصالح الموكولة لأماناتهم والمعهود بها إلى ذممهم وضمائرهم…
فأداء الأمانة من كمال الإيمان ومن حُسن الإسلام و المجتمع الذي تفشو فيه الأمانة ، مجتمع خير وبر وبركة.
- أيضًا من الأخلاق الكريمة التي تعلمناها من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم خلق العفة .
والعفة تعني: الصيانة والوقاية والحماية والبعد عن كل ما لا يليق من الأقوال والأفعال والأعمال والأحوال.
وأول وسائل تحقيق العفة ، هي وسيلة العمل والسعي والكفاح حتى يعيش المسلم عزيزًا فلا يذل ، كريمًا فلا يُهان ، أبيًا فلا يضام .
ها هو النبي صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين المهاجرين والأنصار مؤاخاة لم يعرف لها التاريخ مثيلًا ، حتى قال سعد بن الربيع لأخيه عبد الرحمن بن عوف: هذا مالي لك نصفه ……
فأجابه بكل عفة: بارك الله ـ عز وجل ـ لك في مالك وأهلك ولكن دُلني على السوق. وهكذا طلب عبد الرحمن العفة فعفه الله ـ عز وجل ـ .
وعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد كان يعمل معهم بيديه ، يحمل التراب على كتفيه ؛ ليبين لنا قيمة وشرف العمل وأنه سبيل العفة التي هي ركنٌ من أركان المروءة التي يُنال بها الحمد والشرف.
ـ كذلك من القيم التربوية التي ينبغي علينا أن نعلمها الأبناء والتي تعلمناها من هجرة خير الأنبياء ، محبة الأوطان ، فمحبة الأوطان من تعاليم دين الإسلام .
فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يُخرج من بلاده التي نشأ فيها وعاش فيها أكثر من خمسين عامًا ، فنراه يقف هنية ينادي مكة ، ينادي جبال مكة ، ينادي رمال مكة يقول : (يا مكة والله لأنت أحب بلاد الله إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت )
وهكذا نعلم أن الهجرة أخلاق عالية وقيم رفيعة ، يجب علينا أن نحياها ونتخلق بها حتى نتغلب على الفتن التي تحيط بنا من كل جانب .
اللهم اجعلنا مهاجرين إليك ، متوكلين عليك ، واثقين في معيتك ، مستعينين بك ، اللهم احشرنا مع المهاجرين والأنصار ، والصالحين والأخيار.