إن هلاك فرعون وقومه حَدَثٌ تاريخيٌّ مفصليٌّ؛ إذ إن فرعون عَلَا في الأرض، وتجبَّر، وتكبَّر، وسَفَكَ الدماء، وذبَّحَ الأطفال، واستحلَّ الأعراض، وأذاق الناس أشدَّ أنواع العذاب، وادَّعى الربوبية والألوهية، وسَخِرَ عِدَّة مَرَّاتٍ من ربِّ العالَمين -سبحانه وتعالى-؛ منها قوله مُستهزئًا: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36، 37] فلما بُنِيَ له الصَّرح ارتقى فوقه، فأخَذَ سهمًا فرمى به نحو السماء، فارتدَّ إليه مُتلَطِّخًا بالدماء؛ فقال: “قد قتلتُ إله موسى”. تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
ولذلك فإن يوم هلاك ذلك المُتكبِّر المُتجبِّر ونجاة سيدنا موسى منه حَمَل إلينا كثيرًا من المعاني الإيمانية؛ لعل من أبرزها:
أولًا: صِدق اليقين والتوكل على الله: لمَّا أصبح سيدنا موسى أمام البحر ومِن ورائه فرعون، قال له قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] إذ إنهم رأوا أن لا أملَ في النجاة، لكن سيدنا موسى رأى ذلك المشهد بيقينٍ صادقٍ وتوكُّلٍ تامٍّ على الله تعالى؛ فقال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فجاء ردُّه حاملًا كل أنواع التأكيد؛ حيث النَّفْي {كَلَّا}، ثم الإثبات {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، ثم تقديم المَعِيَّة فلم يَقُل “إن ربي معي”؛ وذلك اليقين الصادق يذكِّرنا بقول نبينا محمد ﷺ حين قال لأبي بكر -رضي الله عنه- وهما في الغار:
{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]،
وقال له ﷺ أيضًا: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» [رواه البخاري (3653)، ومسلم (2381)].
فلم تَكُن ثَمَّةَ وسيلة أمام سيدنا موسى للهروب من فرعون، حتى جاء الأمر الإلهي بضرب البحر بالعصا؛ قال تعالى:
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63]،
وماذا تفعل العصا أمام البحر العظيم؟! إنه فَرَج الله تعالى مع مَن يتوكل عليه توكُّلًا صادقًا؛ فكانت النتيجة:
{فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63].
ثانيًا: سُنَّة الفرح بهلاك الظالمين وأعوانهم وأتباعهم: إن الفطرة السوية تفرح بهلاك الظالمين، وبالطبع قد جاء الشرع الحنيف مُتَّسِقًا مع تلك الفطرة؛ حيث قال تعالى:
{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]،
وقال النبي ﷺ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» [رواه البخاري (6147)، ومسلم (950)] حتى الشجر والدوابّ تفرح بهلاك الظالمين، فكيف الحال بالبشر؟!
ولا أَبْيَنَ ممَّا جاء صراحةً في حديث النبي ﷺ لمَّا قَدِمَ المدينةَ فوجد اليهود صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم رسول الله ﷺ: «مَا هَذَا اليَوْمُ الذِي تَصُومُونَهُ؟» فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى اللهُ فيه موسى وقومَه، وغَرَّقَ فرعونَ وقومَه، فصامَه موسى شُكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله ﷺ: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بمُوسَى مِنكُم» [رواه مسلم (1130)]. ولذلك قال كثير من العلماء باستحباب توسعة النفقة على الزوجة والأولاد والأقارب في يوم عاشوراء؛ إذ إنه يوم مُعَظَّم فكان حَرِيًّا بإظهار الفرح والسرور فيه.
ثالثًا: تُولَد المِنَح من رَحِم المِحَن: حيث قال تعالى بعد هلاك فرعون وقومه:
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
رابعًا: الباطل وأهله سيزولون لا محالة: ذَكَرَ المؤرِّخون أن فرعون حَكَمَ مصر مُدةً تجاوزت الستين عامًا، ولا شكَّ أنها مدة طويلة، ولا سيَّما أنها كانت مليئةً بالظلم والقهر والاستبداد، لكن سُنَّة الله ماضية في عباده، وهي أن الظالم لا يَحُول بينه وبين هلاكه سوى “الوقت”، مهما طالَ أو قَصُر، لا شكَّ أن مآله إلى الهلاك والهزيمة؛ ولذلك ينبغي على المسلم ألَّا ييأس من رحمة الله وألَّا يُسَاوِره الشكُّ في سُنَن الله تعالى