(ياما كنت اتمنى اقابلك بابتسامة أو بنظرة حب أو كلمة ملامة/بس أنا نسيت الابتسام زي منسيت الآلام/ والزمن بينسي حزن وفرح ياما، ياما)
لنقتطع هذا الجزء فقط من أغنية فات الميعاد للست أم كلثوم، من ألحان العبقري بليغ حمدي وكلمات مرسي جميل عزيز، ونترك الأغنية ومافيها من ندم ،لأن هذه الجملة لوحدها تحتاج لكلام طويل في سبب أن تكون صفحة بيضاء هكذا مغسولة من أية مشاعر وكأنك فقدت ذاكرتك تماما.
كلنا يردد المثل الدارج(الضربة الي ماتموتك تقويك).
لكن من قال إن تلك الضربات التي تلقيناها في الصميم لم تقتلنا؟!!
هل لأننا مازلنا بيولوجيا نسير ونتنفس ونأكل بعض اللقيمات نجامل فيها الجسد المنهك، ونضبط المنبه كل يوم لندور في الناعور كالثيران مجبرين، ونوزع الابتسامات الضبابية هنا وهناك ليبدو كل شيء على مايرام ،هل هذا يعني أننا لم يتم قتلنا بضربة قاتلة منذ زمن بعيد وماتبقى منا ليس سوى هيكل لغصن كان يوما يانعا أخضرا يفيض حياةً. !!
أفعلا قوّتنا تلك الضربات القاتلة فقط لأننا لم ندفن كجثة تحت التراب بالصورة التقليدية ولم يرشوا على ثرانا ماء الورد ويوقدوا الشموع !!
الضربات القاتلة تقتل ولا تقوي أو تنضج عوداً.
أحد الناجين من الضربات القاتلة سأله صديقه ليطمئن على حاله:
كيف حالك الآن؟ قال: كل شيء كان قاتلا ،لكني لم أمت.
هو قد مات بالفعل ،لكنه مازال غير صالحا للدفن بنظر الناس وحسابات الطبيب العدلي والدفان.
حينما قالت أم كلثوم ،بس انا نسيت الابتسام زي مانسيت الآلام ،هذا وصف دقيق للامبالاة التي تجتاحنا بعد الضربات القاتلة .
الناجون من تلك الضربات لم يتحولوا إلى جبال من الصوان أو زجاج مقاوم للرصاص أو سلالة جديدة من الصراصير المقاومة للمبيدات .
هم ببساطة فقدوا الروح ،فقدوا الإحساس بالأمان ،الثقة بالآخرين، فقدوا لذة الشعور بما يفرح وبما يحزن ، دموعهم تحجرت في مآقيها،ضحكاتهم غارت في قلوب أصبحت من شدة الطرق عليها بمطارق القسوة مجوفة .
بعضهم يصبح غير مبالٍ، وكأنه تمثال من شمع ، يتفرج على الناس ببرود التماثيل في متحف للشمع .
بينما يتحول الآخرون إلى كتلة من قسوة وغاز خامل لايشتعل ولايساعد على الإحتراق.
يقول نجيب محفوظ :لا تأخذ جرعة كبيرة من الثقة ، أترك مكاناً للخيبة ، ومكاناً لإستيعابها أيضاً.
الناجون من الضربات القاتلة يرونهم الناس أقوياء ،لأن الناس تنظر لقشرة الحلزون ولاتعرف شيئا عن الكائن الرخو الذي بداخلها.
تحت القشرة انهيارات وخيبات قضت على براعم التذوق فلافرق بين الحلو والمر ،السكر والحنظل ، لأنهم يعرفون جيدا أن لاأحد هناك ليمسك بيدهم إن تعرضوا لضربة جديدة .
سيهرب الجميع ويتركونه وحيدا ،يصيح في بئر مهجورة لايرتد منها سوى صدى صوته .
عندما سألوا أميل سيوران ماذا تفعل من الصباح حتى المساء قال:
أحاول أن أتحمل نفسي.
أحيانا تلتقي بمن طعنك في حشاشة القلب بعد سنوات أو عقود ، طعنة كانت كافية لتحيلك إلى أي شيء آخر إلا أنسان على قيد الحياة ، وستجد نفسك تبادله التحية وتتجاذبان الحديث وكأنه لم يكن يوما قاتلك ، تحدثه وأنت بلا ذاكرة بلا مشاعر ،لأن شفتاك الملطخة بالعتاب سافرت بعيدا حاملة معها ألمك فرحك إحساسك ،الزهايمر عاطفي اجتاحك كتسونامي فلم يبق ولم يذر.
حدث هذا مع إحداهن ،قالت : حين جاء يبحث عني بعد ثلاثين عاما ، قال :كنت أتوقع أن ترميني بأقرب آلة حادة في متناول يدك ،لكني أراك تحدثيني بكل طيبة وكأن شيئا لم يحدث بيننا .!!
تقول: نظرت إليه ،وبصدق بالغ قلت له:
وماالذي يدفعني لفعل ذلك ، الآن أنا لا أحبك ،لاأكرهك ،لاأشعر بأي شيء على الإطلاق ، سنتان من امتصاص دمي انهيتها أنت بالخذلان كانتا كافيتين لمنحي تذكرة سفر دائمة نحو تبلد المشاعر والموت حية.
يقولون كلما كان الحب كبيرا والثقة لامتناهية كلما كانت ضربة الغدر أمضى نصلا وأصوب تهديفا،بعدها تكون الحياة منتهية الصلاحية كمن يحمل شيكا بمبلغ كبير لكن الرصيد في البنك فارغ.
الناجون من الضربات القاتلة تتقوس سهام ظهورهم وتصاب عظامهم باللين حد المرونة لذا تراهم ينفذون من أضيق الجحور والأخاديد وأعتمها ،ليس بطولة منهم لكن مجبر أخاك لابطل .
لابد أن تكون الضربة قابلة للإحتمال والإمتصاص كي تقوي متلقيها من بعد النقاهة.
لكن تلك الضربات القاضية ، ستغير الخارطة تماما.
ستشرق الشمس عليك مثل كل يوم ،وتنظر من النافذة لتشاهد القمر الأبيض ككل ليلة ،ستتناسل الأيام ،لن يغير كوكب فلكه الذي يسبح فيه،لكنك تشعر بأنك لست أنت ،شيء ما تغير ، شيء ما ودع هذه الحياة بصمت المآذن المهجورة والكاتدرائيات الكبيرة المنعزلة في العشب والصخور والسكون .
شيء فيك رحل ،وترك جسدا مغطى بقشرة صلبة تبدو فيها بأنك أصبحت أقوى .
لأنهم ببساطة لايعنيهم النظر داخل الصدفة ،ليطمئنوا على ذلك الكائن الرخو ،أمازال حيا أم يتظاهر بالحياة.