بعد طوفان سيدنا نوح أتت حقبة شهدت طغياناً لم تشهده حقبة أخرى في التاريخ الإنساني ، وكانت الحضارة الظاهرة في ذلك الوقت هي حضارة أهل بابل والتي توافد عليها ملوكاً من عتاة التاريخ ، وكان من بينهم ملكاً إسمه ” النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ” ، بحسب ما ذكره «ابن كثير». .
كان النمرود مفتوناً بالسلطان والقوة ، وبدأت فكرة تعلم السحر من رغبته الجامحة في السيطرة على مُلك الدنيا لكي لا يكون لأحد ملكاً كملكه فيمن سبق ومن لحق ، فكانت الصفقة الأولى بين إنسي وشيطان رجيم أو كما أشير له بإسم “إبليس”
بأن يبيع له نفسه وروحه بالطغيان الكامل والطاعة مقابل القوة والسلطة والسيطرة على العالم بالملك
فأمر إبليس النمرود أن يسجد له إذا كان يريد الجبروت والقوة ، فسجد له النمرود ، و بدأ يتعلم منه السحر و ملك الأرض ، وبالفعل أعطى إبليس النمرود كل أسرار وتعاليم السحر التي تمكن له ما أراد
بدأ النمرود السيطرة على المُلك بقتل والده “كوش” ، وأمر أهل مملكته بالخضوع له والإمتثال الكامل لأوامره ونواهيه كإله وملك للأقاليم السبعة لا يوجد له مثيل أو شريك في الملك .
قال ابن كثير في كتاب «البداية والنهاية» : أنه أول من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادعى الربوبية ، وأستمد فكرة التاج من ملوك الجن ، واستمر في ملكه أربعمائة سنة ، وكان قد طغا وتجبر وعتا وآثر الحياة الدنيا».
وأراد أن يؤسس مقراً لمملكته فجمع مئات الآلاف من أهل مملكته يقدرون بنحو ستمائة ألف رجل ، وطلب منهم أن يشيدوا له برجاً لا تُبلغ قمته إلا بمسيرة عام كامل وكان له ما أراد ، وشيدوا له برجاً هو أول عجيبة من عجائب الدنيا .
يقول القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» : إستقر النمرود في ملكه حتى جاء يوم رأى في منامه حلماً : ( بأنه نظر للسماء فإذا به يرى فارس على جواده يأتي في مواجهته ، ولما أعاد النظر وجد أن الفارس قد إختفى ليحل محله كوكب متألق في مواجهة الشمس ،
ولما أعاد النظر مرة أخرى وجد أن الشمس إختفت والكوكب كأنه فارس يعدو بقوة جهة الأرض موجهاً اليه سلاحه ) .
ففزع النمرود وإستيقظ من نومه وأمر بالصفوة من علماء بابل كي يفسروا له رؤياه ، فأجمعوا على أن تفسير ذلك هو أنه سيولد في مملكته ولد تكون نهايته بظهوره ،
فثار النمرود ثورة عارمة وأمر بأن يقتل أي مولود يولد في مملكته ، فقتل كثيراً من الأطفال وأمر جنوده بأن يقتحموا البيوت ليفتشوا فيها عن كل مولود ، وكان من بين من ولد في تلك الحقبة سيدنا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء ،
ولكن أمه أخفت خبر مولده ونجحت في تضليل جنود النمرود عنه حتى صار يافعاً ، وعندها تحدى عباده النمرود والأصنام.
لما رأى سيدنا إبراهيم في قومه الضلال والطغيان من عبادة الأصنام التي يتوسلون بها للكواكب التي كانت هي آلهتهم ومنها الشمس التى يمثلها النمرود ،
أبى ذلك وأصر أن يحطمها حين خروج الملك وأهل قومه للإحتفال بأحد الأعياد ، فذهب إلى معبدهم الذي كان يسمى “أور” وحطمهم جميعاً إلا صنماً ضخماً فيهم إسمه “مردوخ” وضع على كتفه الفأس ورجع .
عاد النمرود وأهل مملكته فصدموا بما رأوا من تحطم أصنامهم ، فتعقبوا إبراهيم لسابق علمهم بكرهه للأصنام ، وحين وصلوه قالوا له : لم حطمت آلهتنا .
=فأجاب: “بل فعله كبيرهم الذي كسر الأصنام الأخرى لأنه يغار منهم ، فإسألوهم إن كانوا ينطقون “.
غضب القوم غضبة شديدة وأخبروا النمرود بما حدث من إبراهيم ، فأمر بأن توقد ناراً عظيمة وأن يأتوا به ويلقوه فيها على مرأى القوم ليكون عبرة لغيرة ، جمع الناس الحطب وأشعلوا النيران وأتوا بإبراهيم وألقوه فيها ، ولكن جعلها الله بردًا وسلامًا عليه ، كما ذكر في القرآن الكريم.
وحين هدأت النار وانطفأت ذهبوا ليجمعوا رمادها ورماد إبراهيم ، فإذا به يخرج من تحت الرماد ولم يصبه لا حرق ولا ضرٍ سليماً معافى .. فإندهش الناس وأمن منهم من أمن .
فتعجب النمرود كيف نجا إبراهيم عليه السلام من النار التي أعدها قومه لتحرقه فنجاه الله بأمره ،
فأراد النمرود مناظرته ومجادلته في أمر ربه ، وأمر النمرود بإبراهيم فجاءه قال له : من ربك؟!
قال إبراهيم : ربي الذي في السماء.
فقال له النمرود: وماذا يفعل ربك هذا؟!
أجاب إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت.
قال: له أنا أحيي وأميت .. وأمر بإثنين محكوم عليهما بالإعدام وقتل أحدهما ،
وقال : أحييت هذا وأمت هذا.
فقال سيدنا إبراهيم له : أحيي من قتلت لو تقدر .. ثم إن ربي يأتي بالشمس من المشرق فإت بها أنت من المغرب.
=فبهت النمرود ولم يستطع الرد .
فبعث الله إلى ذلك الملك الجبّار ملكًا من الملائكة يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ، ثم دعاه الثانية فأبى عليه
، ثم دعاه الثالثة فأبى عليه ، وقال : اجمع جموعك وأجمع جموعي.
فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ، فأرسل الله عليه جيشاً من البعوض ، بحيث لم يروا عين الشمس وسلّطها الله عليهم ، فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا باديةً ،
وقد تبعته بعوضة ودخلت في أنف النمرود وأستقرت في رأسه فمكثت أربعمائة سنة عذبه الله تعالى بها ، فكانت لما تدور بها تعذبه عذاباً أليماً ولا يسكتها إلا أن يضربه جنوده بالنعال على رأسه حتى يخر يسيل الدم من أنفه ، حتى أهلكه الله عز وجل بها.
مات في قلعته برج بابل الذي بناه ليبارز ملك السماء ، و لم يعد له أثر يذكر رغم أنه كان شاهداً على عجيبة لم تحدث في الأرض.