فتحت العيون من غمضة الليل الحالكة،على أصوات السعال ورائحة غريبة …!!! أدت إلى اختناق السيد “روبرت ” الذي كان يعاني دوما من نوبات الربو الشديدة،أخذ يتلمس الأدراج …يضع يده المتجعدة ليخرج بخاخة الأكسجين من مكانها المعتاد…
لم يتمكن من سحب الدرج…رعشة مفاجئة تمكنت منه،أردته يصارع هزات الصدر ودقات القلب المتفاوتة السرعة ،ليبلغ أوج الهلاك حينما تملكه الموت للحظة أثناء اختفاء البخاخة وتفاجئه من عدم وجود أي واحدة إضافية…!!!.
اجتاح الغرفة دخان كثيف ،حجب عليه الرؤية بوضوح خاصة مع انقطاع التيار الكهربائي في تلك الليلة…استعاد بعضا من قوته، بعدما رشف كمية قليلة من الماء قبل سقوط القدح مكسورا…
حاول التشبت بالأريكة ،بأي شيء يمكن أن يوصله إلى النافذة فضولا لكي يرى مايحدث في الخارج،فصخب مريب يعلو تلك الباحة الواسعة،..أيها السادة والسيدات أنا صانع سعادتكم أنا عرابكم أنا مجدكم بعد الله محتوما…
تجمدت عيناه من الصدمة وارتعدت فرائصه لما حل بمزرعة “بيرجن” المرموقة…تراجع إلى الوراء باندفاع كبير وملامح الهلع تغمر محياه ،يهم بفتح الباب ،يتعثر بذلك الزجاج المترامي في كل نواحي المقصورة ،يريد فتح باب غرفته التي يحكم إغلاقها في غياب زوجته اليونانية ذات الثلاثين عاما فهو يثق بها أشد الثقة باعتبارها غائبة في رحلة عمل ،فهي صحافية مشهورة في الجانب السياسي…
الهاتف يرن وقرع الباب يود أن يكسر …سيدي سيدي :أنا ريتشو ،افتح الباب….
حاول السيد “روبرت ” أن يخطو بعض الخطو لكنه سقط مغما عليه ….
أفاق” ملك أوماسيا “كما كانوا ينادونه ،ليجد نفسه مقيدا مضمد الفاه،عبرات ظلت متعايشة معه طيلة الثواني التي لم تعد ترجو المزيد،تنزل بمفردها تصارع كسرته المتجرعة حسرة وألما على فقدان ابنته مونيكا وحفيدته، التي كان يسميها فراشة البساتين…
فتح الباب بعجالة…ما الخطب ؟ تنزع الضمادة….. يبتسم السيد روبرت: زوجتي حبيبة قلبي روزلين….ثم يدخل في مرحلة شرود مضطربة….تنزل عليه حبيبته بوابل من الأسئلة في جعبة مليئة بأفكارها المحيرة: كيف حدث هذا ؟لم نعد نملك ولا فلسا واحدا…تعرضنا للإفلاس وافتكت جميع المصانع ، وفوق هذا تحرق المزرعة بكل مافيها ؟ المواشي ،حقول القمح؟ من فعل هذا؟قل لي تكلم؟ …دخل ريتشو وعم صمت يجر بعد السكون إلى ومضات تنازع ذكريات عصر الشجن…الشاب الحنون الذي ألفه الجميع إلى جوار الرئيس طوال الوقت ،لم يتركه ولا لحظة…ذلك الغريب ذو البشرة السوداء وعيون خضراء حادة … اليد اليمنى للسيد” روبرت “وحارسه الشخصي ،الذي وقف في وجه الملامح المكشرة،في وجه السواعد الغاضبة ،حيث أصيب بطلق ناري كان موجها لاغتيال السيد “روبرت” فأعداءه كثر لأنه على مدار السنوات يسيطر على البلدة ورئاستها ويسبط نفوذه بدون وجه حق…
تنهد السيد”روبرت”وقال متلعثما:خذ….ني إلى البيت !!!…قال:خذ الحبة…
نظر” ريتشو “في عيون سيده نظرة شاردة منشطرة،نظرة مغمورة ببؤبؤ شديد الحمار متقزم الملامح،جدير بفرط الصور ليرسم ومضات الأيام … عبق رحيق أزهار اللوتس التي كان يقدمها إلى أمه،ويجعلها تاجا فوق رأس أخته الرضيعة التي مجدت الجنة،وفاحت رائحتها بقاع النارنج ،ونقشت منارة اللؤلؤ في ثوب الكهل….نظرة سمراء لليتم المراد نزعه ليبقى فقط في مسامع أذنه وقعا يحتضر،لم تكن أبدا النوايا صافية ،لم تكن الأسرار المدفونة تستدعي كل هذا الإنتقام ..كل هذه الحنكة في الإنجاز،هل كان من السهل اقتناص كل هذه الفرص …هل تجادلت الرحى مع الأيام لتقيس كل هذا الغيض الغير متناهي…
يبدو أن الفرصة قد حانت للرحيل مع “روزلين”,جئتك اليوم حضرة الرئيس ألتمس منك العذر من هتك شرف أمي،من اغتصاب المهد في حالة النشوة والقمار،جئتك خادمتي في ملامح العوز وسلب العجز…
أنا” ريتشو “وسأقول مادست أمي في طبل الحنين،جئتك ثائرا صغيرا أترجاك أن لاتطلق النار على والدتي وأختي التي راحتا ضحية رهان سخيف،أملي بك كان كبيرا واليد كانت كفيفة…لم تصنع شغفا لولد أسود وحيرة الخضار،دققت العرق سما لك،وجئتك بالأعداء للبيب دارك،كان العرج مصيرا لا اختيارا،كان الإفلاس من يدك اليمنى ،من ثقة عمياء، من زوجتك حبيبتي” روزلين “،كان ماؤك دواء للهلوسة وعلاج الصدمة كان بإعادة الأحداث في كل مرة ،أسقيتك نارا قصاصا لعائلتي، قتل أعزاء لك بكل ضحكة وراحة، لا تخف سأغمص عيناك،آن الأوان يا أبي بعد مكوثك طويلا في مستشفى المجانين ،أن تتخلص من آلامك فهذا ما أستطيع أن أقدمه هدية لك…
/ الجزائر