الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة وهدى للعالمين، وبعد:
فلقد كان العالم قبل مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يرزح تحت نيران الاستعباد والظلم والقهر وضياع القيمة، حتى استعبد القويُّ الضعيفَ، واستأسدَ الغنيّ على الفقير، وشاع الظُّلم في حياة الكثير من الخلْق، حتى شاء الله -تعالى- أن يمنّ على الكون بحياة جديدة ينتشر فيها الرحمة والتسامح والتعايش السلمي، حياة تعود فيها الحقوق لأهلها من جديد، حياة ترقى بالإنسان أيًّا كان.
أذِنَ رَبُّنا سبحانه بميلاد النور الذي بدّد ظلمات الوجود، أذِن الله تعالى بميلاد الرحمة التي ستمسح بمنهجها وهديها دموع البائسين، وتجدّد الأمل في قلوب اليائسين.. فكان ميلاد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
مع مولده تحوّل العالَم من الظلام إلى النور، ومن الجهالة إلى العلم، ومن الضلال إلى الهداية، ومن الوثنية والشرك إلى العبودية والتوحيد لرب الأرض والسماء، ومن الفُرقة والشتات إلى التآخي والتعاون والتكامل.
ومع ذكرى مولده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: في كل عام تتجدد خلافات الناس حول حكم الاحتفال بذكراه، مع أنّ يوم مولده هو من أعظم أيّام الله تعالى، حريّ بالمسلمين في أقطار الأرض أن يذكّروا أنفسهم والدنيا كلها بأيَّام الله التي أكرم الله فيها الدنيا بعظيم مِنّتِه وكريم عطاياه.
إنّ يوم مولد الحبيب عليه الصلاة والسلام هو أحد تلك الفواصل التاريخية في حياة البشرية كلها، فالدنيا قبل مولده غير الدنيا التي كانت بعد مولده، والعالم الذي كان قبل بعثته، تغيّر تمامًا بعد بعثته ورسالته، فللتاريخ فواصل كالأزمنة الاستثنائية في حياة الأمم والشعوب، فواصل توقظ الهمم وتجدّد العزائم، وحتى نكون من أهل العمل أكثر من أهل القول والادّعاء، يمكن القول بأنّ الاحتفال بميلاده الشريف أمر جائز لا غبار عليه؛ بشرط الانضباط بضوابط الاحتفاء والاحتفال الصحيح؛ ليتميز الخير من الشر والحق من الباطل.. ومن أهم تلك الضوابط ما يأتي:
أولا: الالتزام بالآداب الإسلامية في عدم الاختلاط المؤدّي إلى الفتن والشهوات.
ثانيا: تحويل الذِّكْرَى إلى مناسبة تربوية وعلمية يستفيد منها أبناء الأمّة عبر ندوات ولقاءات تثقيفية عن سيرة النبي العظيم.
ثالثا: ألا ترتكب محرمات في الاحتفال بمن جاء لإظهار حلاوة الحلال وقُبح الحرام.
رابعا: تلمّس هديه الشريف في القول والسلوك؛ مِن صِدق وأمانة ورحمة وعدل وكرم وعفة وحياة وتربية وعلم وعمل كريم، قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)..
خامسا: عدم الإسراف في المطعومات أو المباحات؛ فالإسراف مذموم على كل حال؛ كما قال المولى جلّ وعزّ ناهيا عباده “ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين”.
سادسا: عدم تخصيص ذكرى الاحتفال والاحتفاء بصلاة معينة أو قربة ما؛ فالأصل ألا يتعبد المسلم بعبادة إلا إذا ورد بها دليل صحيح صريح.
سابعا: تجميع الأبناء والبنات على مائدة المولد “مائدة العلم والسيرة العطرة”؛ تلمسًا للبركة والنماء والتزكية للنفس والغير.
ثامنا: استغلال ذكرى مولده في التوسعة على عباد الله تعالى بصناعة المعروف وقضاء حوائج المحتاجين وإطعام الطعام وإسعاد الناس..
فلنحتفل بمولده صلى الله عليه وسلم بما يُرضيه من قول أو فعل لا بما يُغضبه ويُحزنه منا.. فهو صاحب الذكرى.. فكيف نحتفل بشيء يُغضب الذي كان ويكون من أجله الاحتفال؟؟ فالقصة ليست في قضية الاحتفال من عدمه.. القصة كيف نحتفل بصورة مقبولة وصحيحة شرعا وعقلا..
ومَن أراد أن يحتفل بميلاد النور فلا يكون بنشر الظلام.. ومن يريد أن يحتفل بمولد العِلم لا يكون ذلك بنشر الجهل والخرافات، ومن أراد الاحتفال بميلاد صاحب العفة والحياء فلا يكون بحب شيوع الفاحشة أو الرضا بها هنا أو هناك.. ومن يريد الاحتفاء بنبيّ العدل والرحمة فلا يشارك في ظلم إنسان أو يقسو على أهله وجيرانه من مسلمين وغير مسلمين، ومن يريد الاحتفال بمولد نبي الهدى فلا يكون بمشاركة في ضلال أو إضلال، ومن يريد أن يحتفي بميلاد نبيّ الإصلاح فلا يكون بنشر الفساد أو الرضا بالفساد، ومن يريد أن يحتفل بميلاد الرحمة فلا يكون بظلم الضعفاء، ومن أراد أن يفرح بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلّم فليكن بسمة أمل ولسان تفاؤل وحركة بناء في المجتمع لجميع الخلق.
أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية المُساعِد بكلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة- جامعة الأزهر