مارأيكم في سفرة مفتوحة الزمن إلى بلد القياصرة روسيا وبتذكرة وإقامة مجانية ،هل ستذهبون؟؟
أنا عن نفسي لن أذهب ،نعم لن أذهب لاتتفاجؤا ،والسبب ببساطة هو أنني ادثر نفسي باللحاف في عز الصيف حين أخلد للنوم ، مشكلتي مع البرد أصيلة ، لذا لم أزرع أي فكرة في رأسي للمكوث ولو بضع ساعات في بلدان الصقيع واكتفيت بتخيل جمالها الساحر فقط .
لكن يبدو أن الدكتور كريم صبح يعلم بمعناتنا نحن (المبرادين) عشاق الشمس لذا أحضر لنا هو روسيا بعاصمتها ومدنها وفنادقها وشوارعها وآثارها التاريخية ووضعها بين إيدينا ونحن نستلقي متدثرين بأغطيتنا على السرير أو نشرب أكواب الشاي العراقي الساخن في ظهر تموز وآب اللهاب مثلا.
ولم يكتف بذلك بل رزم لنا سيبيريا الواسعة بكل عجائبها وسكانها وبحيرتها وثلوجها وجبالها وكبسها في صفحات بين دفتي كتاب ماعليك سوى أن تضع ساقا على ساق وتطالعها وأنت تحتسي شايك الساخن لتعرف كل مايخطر على بالك ومالايخطر أيضا عن روسيا القيصرية وأسرارها ،ماذا يأكلون وكيف يعيشون هناك .
وهكذا تجولت أنا في بطرسبيرك ثم دخلت فندق فخم في شارع (نيفسكي) أكثر شوراع بطرسبيرك شهرة وبعد عدة صفحات رحلت حيث سيبيريا وتعرفت على الشامان هناك وشاهدت القرى بمنازلها ذات الأشكال الغريبة .
منذ اقتنائي لرواية (القبر الأبيض المتوسط) وأنا أسأل نفسي ،ترى ماذا تعني تلك الجملة الغريبة (القبر الأبيض المتوسط) ولكنني صبورة بطبعي لذا كنت التهم السطور وأنا أحاول القبض على إجابة.
ومنذ أول صفحة وضعنا دكتور كريم صبح في حيرة وتساؤل لا يهدأ ،حيث كان من يتحدث إلينا في أول صفحة شخصية مبهمة جعلتني اعيد قراءة الصفحة مرتين لأفهم من المتحدث ،اين هو ومن يكون ؟!!
ثم يختفي ذلك المتحدث بعد عدة صفحات ليأتينا صوت الشخصية المحورية في الرواية وهي تفكر بصوت عال مرة وتكتب خواطرها ويومياتها مرة .
القبر الأبيض المتوسط رواية تجمع بين الخيال ممزوج مع الوقائع التاريخية والشخصيات الحقيقية .
وأنا اتابع أحداثها تذكرت قراءتي وحيرتي والدوار الذي لف رأسي حين قرأت رواية (شيفرة دافنشي) و (الجحيم) للروائي الأمريكي دان براون حيث كان يأخذنا في رحلات إلى بلدان يمزج فيها التاريخ بالخيال بالوثائق الحقيقية بالرموز الغريبة مخلوطة بالخيال الروائي حيث لن يهدأ لك بال إلا حين تحط رحالك في الصفحات الأخيرة من الرواية.
وفي رواية القبر الأبيض المتوسط ستبقى تدور حول نفسك ،لن تعرف سر عنوان الرواية الغريب ولن تعرف ذلك الصوت المبهم الذي يحدثك في اول صفحة منها ويسرد لك معلومات عن بطل الرواية حتى تصل إلى الصفحة ال٢٤٢ وهي الأخيرة فتشهق وأنت تصيح (اللعنة ،هكذا هو الأمر إذن!!).
ترونني قد قلت كثيرا من الكلام هنا دون أن أفصح عن أحداث الرواية أليس كذلك؟
الحقيقة هنالك روايات لايجوز حرق أحداثها ولو بالتلميح عنها وهذه الرواية تنتمي إلى هذا الصنف من الروايات.
لكن قد يسأل أحدنا سؤالا مشروعا ،وهو من هم قراء الروايات؟
الإجابة ببساطة هم ثلاثة أصناف من الناس
القراء من محبي الروايات ، الكتاب، النقاد .
السؤال الثاني والذي يفرض نفسه حتما
لماذا يقرأ هؤلاء الثلاثة الروايات؟
من وجهة نظري الخاصة ولكل منا رأيه وفهمه للحياة ربما بطريقة تختلف عن الآخر
القراء من محبي قراءة الروايات يقرؤونها للمتعة أولا وللتزود بمعلومات علمية نفسية تاريخية لغوية أدبية الخ ،ثم هم يبحثون أساسا عمن يتحدث بلسان عذاباتهم ويقول عنهم مالم يتمكنوا من قوله ،لذا تجد في أحايين كثيرة يخبرك قراءك ولمعة لدمعة تتلألأ في المقل وبدهشة كبيرة يسألونك ،كيف استطعت أن تشعر بي هكذا؟ أنت تقول ما أفكر فيه تماما ! ، وكأنك داخل رأسي!! ، أو إن قلناها بلغتنا الدارجة (كلامك يوكع على الجرح).
أما النقاد فهذا هو عملهم قراءة الروايات ثم تناولها بتحليل نقدي ووضع النقاط على الحروف وتوضيح مايخفى عن القارئ وحتى عن كاتب الرواية نفسه.
لكن لماذا يقرأ الكتاب والروائيون الروايات؟
برأيي وأنا أحسب نفسي منهم ،نحن نقرأها لأننا أساسا نعشق القراءة وهذا أولا
ثم نقرأ للتزود بالوقود السردي ، والوقود السردي هذا هو التعرف على افكار جديدة ،طرق سرد مختلفة،صور شعرية وتعبيرية ووصف يفجر بداخلنا مزيدا من الصور الإبداعية لنشحذ أقلامنا ونحقنها بالوقود وقد نتوقف طويلا عن جملة ما ونتنهد وننظر بعيدا ونحن نعيش الحالة التي وضعتنا فيها جملة أو صورة تعبيرية رائعة.
رواية القبر الأبيض المتوسط رواية كتبها دكتور كريم صبح بحرفة ممتازة بتكوين سردية غرائبية تأرجحك بين الخيال والواقع والتأريخ الموثق .
لكنك لن تجد فيها بغيتك من ذلك البوح الذي تطلقه الشخصيات على لسانها فتشعر أنه يلامس جرح هنا فيك أو آهة مخنوقة في روحك تمنيت لو انك عثرت عليها بين سطور الرواية.
ولن تقبض على صورة شعرية أو تعبيرية أو وصف يحلق بك بعيدا على جناحي الخيال.
فالشخصية المحورية في هذه الرواية (الدكتور وجدي) أنا وجدتها شخصية وصولية أنانية جدا مهووسة برمزها الأدبي وهو ديسويفسكي لكنها تعتقد أنها موهوبة وكل ماينقصها هو العثور على فكرة فريدة للرواية! مع إننا نعلم أن الكاتب تنقر الأفكار الروائية رأسه كطائر نقار الخشب بينما هو يحاول الهروب منها قليلا، وحتى الرمز السامي هنا في الرواية (ديستويفيسكي) لم تك فكرة رواياته فريدة بل كيفية تناول شخصيات تلك الروايات وبوحها وابعادها السايكولوجية ،حتى أن فرويد نفسه قال (لقد تعلمت الكثير عن النفس البشرية من ديستويفيسكي)
هذه الشخصية كانت تحتاج الى بعد سايكولوجي أكبر ليبين مداها ، لاأريد أن احرق الاحداث بسرد التفاصيل، لكن الوصولية وفقدان الهوية وخداع الذات والهوس وحب الذات وتفضيلها على حساب الآخرين وأذاهم النفسي والعاطفي كان لابد أن يتم رسمه بوضوح أكثر وإدانة اعمق من خلال المحيطين بتلك الشخصية وخاصة بتلك التي تربطها به علاقة أسرية شرعية،تلك التي كانت شخصية هامشية وباهتة جدا في الرواية مع أن دورها وعلاقتها بالدكتور وجدي لايمكن المرور عليه هكذا ببساطة .
القبر الأبيض المتوسط ليست رواية عاطفية ولاتنتمي إلى روايات الصراعات الإجتماعية والمشاكل التي يصارعها الناس في حياتهم اليومية بل هي رواية رائعة لخيال ولغز ممزوج بمعلومات تاريخية حقيقية جعلتني افتح الكوكل عدة مرات لأبحث عن أسم ذلك الشخص أو تلك المدينة لأتأكد من وجودها حقا لأن الأحداث مزجت مزيجا مذهلا بحيث أنها تضعك في حالة لاتميز فيها بين الحقيقة والخيال الروائي إضافة إلى كونها سياحة فكرية وأدبية تغنيك عن تكبد عناء السفر إلى بلاد الثلوج والقياصرة والأدب الروسي العظيم فيحلون كلهم ضيوف عليك وأنت جالس ببيجامتك في سريرك تمسك بين يديك رواية لذيذة جدا كتبها روائي هو أستاذ للتاريخ الأمريكي في جامعة بغداد يحمل الدكتوراه في التاريخ المعاصر /جامعة بغداد.