ذكريات يوم 10 رمضان عام 1393 ، الموافق يوم 6 أكتوبر عام 1973:
أمجد يوم في تاريخ مصر الحديث، وأعظم انتصار مشهود لجيشها منذ عصر محمد علي باشا
وأروع يوم عاشه وشهده جيلنا، وأجمل ما سمعناه في الراديو والتليفزيون المصري
كنت في المنزل بعد عودتي من الكلية وأنا أسمع كعادتي إذاعة البرنامج العام
وفجأة وفي تمام الساعة الثانية والربع يقطع الإرسال صوت المذيع “حمدي البلك” المميز وهو يذيع البيان الأول للقوت المسلحة.
كان البيان عن اشتباك يجري بين قواتنا المسلحة وقوات العدو في خليج السويس وقال البيان أن الاشتباك مازال جاريا !!! ثم إذاعة أغنية عبد الحليم حافظ (عاش اللي قال)!!
وفي لحظة قفزت من مكاني ووجدتني أصفق تصفيقا حادا وأهتف بدأت المعركة، والله العظيم بدأت.
إنها المعركة التي ينتظرها الجميع منذ الهزيمة الكارثية في عام 1967، فهذا البيان ليس كأي بيان آخر لقواتنا المسلحة التي اعتدناها، والتي كان تذيع دائما أخبار الاشتباكات بيننا وبين العدو بعد انتهائها تماما، وتستعرض نتائجها، لكن هذه المرة بيان مختلف اختلافا كاملا، فهو إعلان عن اشتباك لم ينته بعد ومازال جاريا !! ثم أغنية وطنية بعده مباشرة!!
إذن فهي الحرب وتلك بدايتها بلا شك ولا ريب ولا جدال ولا سجال. ولا مجال ولا مقال.
وكأنني أعيش هذه اللحظات الآن لتفر الدموع من عيني، وأتذكر وأنا وأقفز في البيت مع أخوتي، وآذاننا ملتصقة بالراديو في شغف لما سيأتي من بيانات، نعم كنا على ثقة تامة أنه ستأتي بيانات.
وجاء البيان الثاني بعد 20 دقيقة بصوت المذيع يحيى عبد العليم يقول فيه أن قواتنا الجوية تضرب مواقع العدو في سيناء. إذن فهو الإعلان الرسمي لقيام الحرب.
وقضيت بقية اليوم منفعلا انفعالا شديدا مع إذاعة كل بيان حتى فجر اليوم التالي. وكنت أبكي شدة إثر كل بيان، وأصيح بأعلى صوتي “يارب”. وكم أكثرت من الدعاء، وكم قرأت الشهادة لكل شهيد من الشهداء الذين كنت على يقين أنهم يجودون بحياتهم في هذه اللحظات المشتعلة بالحرب الضروس مع عدو غاشم متحصن. وكنت على يقين أيضا أن هذه الحرب ليست كسابقتها التي جرت في عام 1967، ولكنها الآن حرب حقيقية وجها لوجه، يخوضها جيشنا تحدوه روح الثأر من الهزيمة، فمن يقف في وجه هؤلاء ؟! ولم أشكك في صدق بيان واحد مما أذيع، ففضيحة البيانات العسكرية في كارثة 1967 لا يمكن لأحد أن يكررها مرة أخرى.
كنت أدرك تماما أنني أحيا أحداث هائلة سيذكرها التاريخ بتفاصيلها مادامت الحياة، وأنا من الجيل التاريخي الذي شهدها. وكنت لا أتوقف عن متابعة أي خبر أو تعليق بأية إذاعة وأنا أقلب مؤشر المحطات كل لحظة، وأستمع بفرحة غامرة للأغاني الوطنية الجديدة التي نسمعها لأول مرة، “بسم الله أكبر بسم الله”، “عبرنا الهزيمة”، “وأنا على الربابة بغني”، “رايحين شايلين في ايدنا سلاح”، “لفي البلاد ياصبية”، “دولا مين ودولا مين دولا عساكر مصريين”، وغيرها ممن أطلقت الفرحة أخيرا في قلوب المصريين. لم أكن أستطيع الجلوس وأذرع البيت جيئة وذهابا في انفعال شديد، وأطل من النوافذ لأشهد فرحة الناس في الشارع. كيف أنسى أنا وكل من عاش هذا اليوم، كل ثانية فيه.
وتمر عجلة الزمن على الأحداث، لكنها عندي متوقفة عند يوم 10 رمضان عام 1393 الموافق 6 أكتوبر عام 1973، فهو أروع أيام حياتي.
ولكن الحرب لم تنتهي حتى الأن فذلك قدر مصر مدى تاريخها ، إما في حرب، أو استعداد لحرب. وجيشها في رباط حتى يوم القيامة.
وأقول لجيلي فلنطرب ونحن نسترجع البيانات العسكرية في هذا اليوم الأغر المتوج بأكاليل النصر، ونترحم على شهداء مصر الذين كتبوا النصر بدمائهم.
وأقول للأجيال التي لم تشهد هذا اليوم، هذا هو جيش مصر……