إن السلبيات التي تنجم جراء الفضاء الرقمي غير المنضبط يصعب حصرها؛ لكن ما يشكل خطورة حقيقية على هُوِيَّتنا العربية والإسلامية تتمثل في صور الفكر الوافد المستورد الذي يؤدي إلى تشويه الوعي والانحراف الفكري، وهنا نخشى على خلق جيل مهزوم ثقافياً لا يحافظ على مقدراته، ولا يصون حضارته وثقافته، ولا يعتز بنفسه ولابتاريخه، ولا يعبأ بجغرافية بلاده، ولا يصبح ولاؤه وانتماؤه لوطنه؛ فيهيم على وجه، ويطلق عنان جموحه في أوساط ومجتمعات لا تقدر ماهية المواطنة ولا تعبأ بمقوماتها.
وندرك أن سهولة التبادل المعرفي وما يتضمنه من مكونات تُعد روافد للبنى المعرفية لدى الإنسان عبر مصادر غالبيتها غير موثوقة أو موثقة؛ فإن نتاج السلوك نرصده في صورة غير مرغوب فيها؛ حيث لا يهتم الفرد بتنمية لغته القومية، ويكتسب عادات وممارسات لا تقرها تقاليد المجتمع وقيمه النبيلة التي آمن بها وتربى عليها، وهنا يحدث تصادمًا غير محمود بين جيل مقلد لا يلقى لمجتمعه بالًا أو اعتبارًا، وبين جيل نشأ على الفضيلة وتربى على ثمرتها.
وما تمت الإشارة إليه يدعوا لقلق بالغ يستوجب علينا أن ننتبه لأدورنا ونتحمل مسئولية الرعاية والتربية التي نبني من خلالها إنسان يستطيع أن يبني وطنه عبر ما يمتلكه من منظومة قيمة أصيلة وخبرات تتضمن معارف صحيحة وممارسات مقبولة ووجدان يحمل بين طياته المحبة والخير ويحضه على التعاون في تحقيق غايات وطنه، ويحفظه من فداحة ما ينسكب من أفكار واردة وشاردة عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.
وننوه إلى أن هناك محاولات لا تتوقف تستهدف إضعاف هُوِيَّتنا القومية، عبر فلسفة باتت مفضوحة تتمثل في مزج الثقافات؛ حيث يتجرد الفرد من نسقه القيمي ويتبني أفكار تنادي بها ثقافات باتت مهيمنه في ضوء ما تمتلكه من إغراءات تشبع الاحتياجات البيولوجية بطرائق غير مشروعة، وهنا يسارع في التخلى عن منظومة الأعراف والتقاليد المجتمعية ويهرول وراء تلك الثقافات حتى يقع في فخ اللاعودة، بعدما يتنازل عن الهُوِيَّة القومية.
ونشير إلى أن الحروب الممنهجة لتدمير الشعوب والمجتمعات أضحت تعمل في العلن؛ إذ تستميل أصحاب القلوب الواهية المريضة وتعمل على دمجهم في بوتقة الثقافات التي تنادي بالحرية والتحرر من كافة القيود التي تكبح الرغبة وتدحر مسارات إشباع الرغبات بالطرائق غير المقبول التي تخالف المبادئ الإسلامية والطبيعة الإنسانية السوية.
وفي ضوء ما يمر به العالم من موجات عنف وصراع ومخالفات صريحة للعدل والمساواة وتبرير لصور الظلم والعدوان وفقدان للمعيارية، واستهانة بتطبيق الشرائع السماوية، وازدواجية في تطبيق القوانين، ومقدرة غير مسبوقة تستهدف شيطنة الآخر؛ فإن ذلك كله يزيد من وتيرة تهديدات فقدان الهُوِيَّة القومية، بل والتنازل عنها بكل يسر وسهولة؛ لتحل محلها الهُوِيَّة المشوهة أو المستعارة؛ فيفقد الفرد ماهية الولاء والانتماء، ويسعى فقط تجاه غاية رئيسة تتمثل في إشباع رغابته بعيدًا عن قيود النسق القيمي لمجتمعه.
وهنا نوقن بأن بناء الإنسان يعد لبنة لبناء الأوطان شريطة أن يكون ذلك على ما يؤمن به المجتمع من ثقافة تتضمن نسقًا قيميًا مشتق من عقيدة وسطية غراء، تضمن تشكيل وعي صحيح يحمل الفرد للعمل بكامل طاقته كي يعمر ويبني ويتشارك في حل ما يمر به مجتمعه من مشكلات ويواجه من أزمات، ويصطف حال نشؤ ما يهدده سواءً أكان ذلك في الداخل أم الخارج؛ فيصبح درعًا منيعًا لا يخترقه مغرض ولا يستهويه فاسد، ولا يضلله من يمتلك العقيدة التي انحرفت عن مسار الوسطية وتبنت الفكر المنحرف.
وثمة حاجة ماسة يتوجب أن ندركها، تتمثل في تضافر الجهود لتعضيد النسق القيمي لدى المواطن لتشكيل اللبنة الرئيسة لبناء الدولة في شتى مجالاتها التنموية والخدمية؛ إذ يصعب أن نحافظ على هُوِيَّتنا المصرية بعيدًا عن ذهن راقي محصن من كل أشكال الإضعاف، أو الاستبدال، أو الاستهداف.
نود أن يكون الجميع دون استثناء شريكًا في بناء إنسان يحمل بين يديه الراية ويحقق الغاية التي تبدو جلية في مسارات استكمال النهضة والإعمار، فيصبح حاميًا ومحافظًا على مقدرات وطنه، يضحي في سبيل بقائه وحريته واستقلاله.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر