الأسباب والمسببات.. الحوار الفعال والفكر الصحيح.. الدور التوعوي التعليمي والديني والمجتمعي
يشكل الفكر الهدام وما يتمخض عنه من تفكير سلبي خطورة بالغة؛ إذ يؤدي إلى تهديد مباشر للسلم والأمن بالدولة، ويساعد على إضعاف الثقة، ويعمل على غرس الشك والريبة، ويضعف العزيمة ويهدر الطاقات البشرية، بل وقد يؤدي إلى التفكك والتشرذم، ومنه إلى الصراع والنزاع والشقاق بالصورة التي نعرفها، لذا أضحى التطرف الفكري أحد أضلع مثلث تدمير الشعوب، وفي المقابل بات الأمن الفكري من دعائم بناء الدولة ونهضتها، وعليه فإن لغة الحوار البناء ضرورة لا غنى عنها.
وندرك أن الأصل في الإنسان الفطرة السليمة، التي عليها ينشأ الإنسان صالحاً، إذا لم يجد من المؤثرات الخارجية ما يصرفه عن حالة الصلاح، وفي ذات الوقت جُبل الفرد على غريزة حبّ الذات، ومن ثَمَّ الميل الشديد إلى الإشباع المفرط لمطالبها، وهذه الغريزة الخاصة بالذات لها وجه نافع، وآخر ضار مما يؤدي إلى أن يسوق الفرد للطغيان ويؤثر على مكتسباته ويدحر غايته ويعطل مسيرته في ظل تناحر وتنازع لا ينتهي.
وهناك العديد من الأسباب والمسببات التي تؤدي إلى انحراف الفرد من الناحية الفكرية؛ فهناك جماعات تستغل حالة الفاقة أو الحالات النفسية التي يمر به الأفراد، ومن ثم تعمل على استقطابها كي تمرر أجندتها الفكرية المشوبة من خلالهم، وهناك المشكلات الأسرية الحادة التي ينتج عنها تفكك أسري يؤدي إلى تشرد الأبناء وتعرضهم للعديد من المشكلات والمغريات، ومن ثم يقعون في براثن الفكر المنحرف من خلال رفقاء السوء، وهناك الفضاء المنفتح الذي يموج بالعديد من الأفكار غير السوية التي يطلقها من يدعون العلم والمعرفة دون سند حقيقي.
وينشأ التصلب الفكري لدى الفرد من صعوبة مقدرته على التحليل؛ إذ يعاني عقله من قصور في التحليل وتناول القضايا بمنطق التفكير المستنير؛ فيظل متأخرًا عن متطلبات واحتياجات ومتغيرات الواقع المعاش، وفي المقابل يعاني من ارتكاب خطأ تلو الآخر؛ فينفر من الشفافية ولا يتقبل مبدأ المرونة الفكرية، ومن ثم يسارع في وضع العديد من الحواجز والعقبات التي تجعل فكره صلبًا؛ فيتبنى المفاهيم المغلوطة سبيلًا لتحقيق غاياته التي لا تتسق مع صحيح المعتقد.
ولا مناص من أن نعمل على تغيير استراتيجيات التعامل التي تستهدف تعديل هذا الانحراف الفكري وتصويب ما لدى الفرد من مغالطات أو مفاهيم خطأ تتباين مصادرها، ومن ثم يأتي الحوار المباشر في مقدمة الخيارات التي تُسهم بصورة فاعلة في تصحيح الرؤى والأفكار والمعتقدات والقناعات والمعلومات التي تشكلت في فترة منصرمة وحملت في طياتها تهديدًا للأمن الفكري على مستوى الأفراد والمجتمع.
وإذا ما فقدت آليات الحوار مع وبين أفراد المجتمع؛ فإن البديل عن ذلك لجوء البعض إلى آليات مضادة تتمثل في التطرف الفكري تجاه تناول قضايا ما، قد تحمل الرأي والرأي الآخر، ومن ثم ينبغي أن ندرك أهمية الحوار كونه عملية تفاعلية تسمح بتبادل الرؤى والأفكار والآراء بين طرفين أو أكثر، يرتكز في مجمله على الشفافية والتوافقية حول الصالح العام، ويعتمد في إنجاحه على أسس وآداب متعارف عليها، ويستمد مقوماته من هدفه السامي؛ ليتحدد عبر نتائج المناقشات تفاصيل القضية محل الخلاف أو الاهتمام، ومن ثم التوصل إلى الصورة الصحيحة التي لا يراها الطرف المعني بالحوار، ومن ثم يسعى لتصويب معتقداته وأفكاره حال قناعته بمفردات وتفاصيل الحوار.
ويساعد الحوار على تحريك الماء الراكد؛ حيث إن الفكر المشوب يجعل صاحبه متصلب في تفكيره، وساكنًا في قناعاته؛ فتبدو الأمور بالنسبة له في غير نصابها الصحيح، والجميع من حوله على المسار الخطأ، وأنه ومن يتبع على الطريق السديد، ومن ثم يعمل الحوار على كشف الغموض، ويتولى إزاحة الستار عن الجوانب التي تعد متشابكة؛ فيقدم من خلاله المعلومة في صورتها المكتملة؛ لتزول الشبهة وتفند المغالطات، ومن ثم تصحيح الفهم الخطأ.
ويقوم الأمن الفكري على ماهية الإجماع على الفكر، ويتنافى مع أحادية الفكر؛ لذا يشكل الحوار البناء أداة فاعلة في تحقيق الأمن الفكري، ومن ثم أضحت لغة الحوار مقوم رئيس من مقوماته، وتعمل على تعزيز التفاهم التي تؤدي بشكل طبيعي إلى خلق بيئة تساعد على القبول والتسامح، وتدحر مداخل التعصب والعصبية لدى طرفي الحوار؛ فيصبح اهتمام الفرد متمحور حول البحث عن الحقيقة، ويصبح الطرف المعالج مركزًا على تصويب نمط الفهم الخطأ الذي أكد الفكرة غير السوية في ذهن هذا الفرد.
والانتباه لفاعلية الحوار لا جدال حولها، والاتفاق أن مؤسسات الدولة معنية بتفعيل لغة الحوار للفئات التي شاع بينها الفكر غير القويم أو ما يسمى بالمنحرف، وهنا ينبغي التركيز على ماهية يقظة الدولة وأجهزتها المسئولة؛ لتحدد درجة الانتشار، ومصادر النقل، والأجندات المغرضة التي تحمل أهداف هذا الانحراف، وهو ما يساعد على سرعة جاهزية من يقوم بالحوار الفعال بصورة مخططة ومدعومة من مؤسسات الدولة وفي المقدمة المؤسسة الأمنية؛ نظرًا لأنها تمتلك أدوات فاعلة في هذا الخضم، وتضمن تنفيذ البرامج التوعوية التي تقوم على فلسفة الحوار البناء.
ووضع آليات تحد من تبني الإيديولوجيات المتطرفة مسئولية المؤسسات التعليمية التي تعزز من جهودها في بناء فكر وسطي يقوم على العقيدة السمحاء لدى النشء والشباب ليمتلكوا التفكير الإيجابي الذي ينتشر بين شرائح المجتمع وتترجمه الممارسات، وهذا من أفضل الطرائق والاستراتيجيات بعيدة المدى التي نحارب بها الفكر المتطرف بصورة اللامتناهية.
وأدوار المؤسسات الدينية عديدة بشأن ما يرتبط بآليات وبرامج المعالجة التي تعتمد على الحوار البناء؛ إذ تعتمد على طرائق الاقناع التي تستند على الأدلة والحجج والشواهد، والتفنيد المستند على علوم وصحيح العقيدة، ويُسهم دور المؤسسات الدينية في سد الطرائق التي يسلكها الأنصار الذين يتفاعلون مع بعضهم البعض على المستويين الداخلي والخارجي، بصورة مباشرة أو غير مباشرة عبر الفضاء وأدواته النافذة ووسائله المتعددة.
وتستهدف المؤسسة الدينية بصورة ممنهجة العمل على محاربة أفكار المتشددين، والسعي المستدام تجاه ترسيخ منهج الوسطية التي تقوم على السلام والتعايش السلمي، ولا ضير من أن تعمل على تقديم الاستشارات العلمية والعملية والحياتية للمجتمع، ولا مناص من أن تتبنى فكرة تجديد الخطاب الديني عبر تقديم النماذج الواقعية في التجديد والتطوير وتأسيس المناهج وترسيخ الأفكار وتقديم البدائل، ومن ثم تتصدى لظاهرتي الفوضى والتطرف في الفتوى.
ولمؤسسات الدولة الاجتماعية فاعلية نلمسها عبر ما تقوم به من ندوات ومؤتمرات واجتماعات تستهدف تصويب الفهم الخطأ والفكر غير الصحيح والشائع بين أطياف المجتمع، وفي هذا الإطار تستعين بالخبراء وأهل الرأي، حيث تقع مسئولية تقويم أو تصحيح الفكر المشوب على عاتق الجميع من أهل العلم والمعرفة وممن يمتلكون الفكر السليم والصحيح والمستنير وفي مقدمتهم الباحثين على مختلف درجاتهم ومواقعهم؛ فالدولة قادرة على أن توفر لهم الفرص والدعم الذي من خلاله يؤدوا ويقوموا بهذه المهمة الوطنية خير قيام عبر لقاءات مباشرة تعتمد على الحوار والمناقشة الفعالة التي تعمل على اقتلاع الفكر المنحرف من جذوره، وتعزيز الفهم ونشر الوعي السليم والمسؤول، وتلك هي الثمرة التي نرجوها وننشدها ونصبوا إليها .. حفظ الله وطننا وبلادنا وشعبنا وأبنائنا من كل مكروه وسوء