إذا أردنا أن نفهم حقيقة الصراع مع إسرائيل فعلينا أن تنصت جيدا لما يقوله الإسرائيليون العاديون في الفيديوهات والتدوينات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وفي استطلاعات الرأي، ولا نثق كل الثقة بالتصريحات الرسمية التي يقولها السياسيون المخادعون، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون، وقد أثبتت التجارب على مدى سنوات الصراع أن الإسرائيليين العاديين؛ المواطنين أو المستوطنين، هم الأصدق تعبيرا عن تطلعات إسرائيل وطموحاتها التي تترجم إلى أهداف مرحلية، يجري تنفيذها خطوة خطوة، حسبما تسمح توازنات القوى والظروف الإقليمية والدولية المحيطة.
لم يكن السياسيون والعسكريون الإسرائيليون في زمن جولدا مائير ومناحم بيجين وشيمون بيريز وإسحاق رابين يتحدثون عن ضم الضفة الغربية والجولان، بل كانوا يتحمسون لشعارات مثل (الأرض مقابل السلام) و (العيش المشترك)، لكنهم في زمن شارون ونتنياهو أسقطوا أي كلام عن السلام، ووضعوا خطة الضم ونفذوها، وصاروا يتحدثون حاليا عن التطبيع (المجاني) وتقاسم المصالح والتنسيق الأمني والتحالف الإقليمي، بينما يروج الإسرائيليون العاديون لضم غزة والاستيطان فيها، واحتلال أجزاء من الدول العربية المجاورة ـ الأردن ولبنان والسعودية ومصر إن أمكن، لتوسيع مساحة إسرائيل (الصغيرة).
وتظهر استطلاعات الرأي تأييد أغلبية الإسرائيليين لقتل المدنيين وتدمير غزة ولبنان، والتحريض الفاجر على ذبح الفلسطينيين تنفيذا لوصايا توراتهم المحرفة “لا تتركوا طفلا ولا امرأة ولا بقرة”، والسيطرة على أية بقعة تنطلق منها المقاومة حتى تخلو منها الأرض، وتصير خالصة لليهود.
ولكي يتم تمرير هذه الطموحات المتصاعدة تاريخيا راحوا يضعون تصنيفات سياسية مراوغة لإلهاء جيرانهم العرب، في البداية قالوا إن المشكلة في الصهاينة وليست في اليهود، ثم صارت المشكلة في اليمين، ثم في اليمين المتطرف، ثم في اليمين الديني، ثم في المستوطنين، والآن تنحصر المشكلة في رئيس الحكومة نتنياهو وعضويها المتشددين؛ سيموتريتش وبن غفير، وعندما يحدث تعديل وزاري سوف يطاح بهؤلاء ويأتي المعتدلون، بينما الحقيقة هي أن الصراع بالأساس مع المواطن الإسرائيلي العادي؛ اليهودي الصهيوني، الذي يعيش محملا بثارات تاريخية، وبأفكار بربرية نازية عنصرية، لا تعترف إلا بمنطق القوة.
يوم الثلاثاء الماضي ـ 22 أكتوبر الجاري ـ نشرت صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية مقالا للكاتب (روجل ألفر) اعترف فيه بأنه “ليس في إسرائيل ديمقراطية ولا ليبراليون، وإنما هي بمثابة جيش ملتزم دينيا واستبداديا وفاشيا، وموقعا عسكريا متقدما للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والحرب متعددة الجبهات التي تخوضها إسرائيل حاليا لا تخدم فقط المصالح الشخصية لبنيامين نتنياهو، بل تدعم أيضا قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي مستعدة للتضحية بالرهائن والجنود وسحق الاقتصاد لتحقيق طموحاتها الأيديولوجية والقومية.”
هؤلاء قوم ساخطون دمويون، لا يقيمون وزنا لقانون أو شرعية أو حقوق أوحدود، ولا يحترمون اتفاقات أوعهود، وقد خانوا عهدهم مع نبيهم الذي أنقذهم من الضلال والتيه، وجادلوه فأكثروا جداله، حتى أخذهم غرور المال والنفوذ إلى القول بأن “الله فقير ونحن أغنياء”، لكنهم يرتدعون بالقوة، ويحسبون لها ألف حساب، ويهربون من المواجهة، “اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون“.
ولعل مقارنة سريعة بين ضربة إسرائيل الجوية لإيران فجر السبت الماضي وما يجري في غزة ولبنان تؤكد ذلك، فقد كانت الضربة الجوية لإيران محسوبة بدقة شديدة، وأكثر محدودية مما كان متوقعا، ولم تستهدف غير مواقع عسكرية منتقاة بعناية حتى لا توقع خسائر فادحة (أربع جنود قتلى فقط)، مع أن التهديدات التي سبقت الضربة أعطت انطباعا بأنها ستكون ردا ساحقا ماحقا على وابل الصواريخ الباليستية الذي كانت طهران قد أطلقتها ضد إسرائيل في وقت سابق من هذا الشهر، أما في غزة ولبنان فتطبق إسرائيل سياسة الأرض المحروقة، تقتل وتحرق وتدمر البشر والحجر بغير حساب.
الفارق هنا أن إيران تمتلك القوة الرادعة التي تستطيع بها أن ترد الضربة بمثلها وزيادة، وهذه القوة لا تتوافر بالقدر نفسه ـ للأسف ـ للمقاومة المحاصرة المستضعفة في غزة ولبنان، وتلك القوة الرادعة هي التي أجبرت الدبلوماسية الأمريكية على أن تنشط سريعا، ضمانا لأن تكون الضربات المتبادلة في حدود المسموح، ولا تجر المنطقة إلى حرب إقليمية قد تؤدي إلى حرب عالمية مدمرة، في حين تتجاهل الدبلوماسية الأمريكية ما يحدث في غزة ولبنان، وتترك لحليفتها الحبل على الغارب كي تنجز أهدافها، ثم تتدخل لصالح الإسرائيليين، فتضمن لهم أن يحققوا بالمفاوضات ما لم يحققوه بالحرب.
وبسبب اختلال موازين القوة الرادعة صرنا نسمع من نتنياهو ما كان يتردد سرا بشأن مخطط إسرائيل الكبرى، وما قاله مؤخرا عن “إعادة ترتيب موازين القوى ورسم خريطة سياسية مختلفة للشرق الأوسط ” ليس هدفا إسرائيليا جديدا، لكنه فيما يظن بات أقرب للتطبيق من أي وقت مضى، في ظل ظروف إقليمية ودولية مواتية لتنفيذ مشروع إسرائيل الاستيطاني في أرض فلسطين التاريخية، وتمديد مشروعها التوسعي للهيمنة على المنطقة بأسرها.
وقد تكرر مشهد ظهور مسؤولين إسرائيليين حاملين خرائط لإسرائيل الكبرى في محافل دولية، تخلو تماما من أية إشارة إلى دولة أو أراض فلسطينية، بل ضمت إحداها الأردن إلى إسرائيل، وكانت تلك الخرائط بمثابة بالونات اختبار لردود الفعل المنتظرة، فلما لم تأت ردود الفعل هذه كان من اليسير أن يظهر نتنياهو بعد ذلك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حاملا خريطتين للشرق الأوسط؛ الأولى لمناطق (مباركة) تكتسي باللون الأخضر، والثانية لمناطق (ملعونة) باللون الأسود.
لذلك لم يكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مبالغا حين استشعر الخطر من تلك الطموحات التوسعية الإسرائيلية، وقال بصراحة: “سيطمعون في أراضي وطننا بين دجلة والفرات يوما ما، وسيعلنون من خلال خرائط يلتقطون الصور أمامها أنهم لن يكتفوا بغزة“.
هذه حقيقة الأمس واليوم والغد، حتى لاتخدعنا السياسة ويخدعنا السياسيون.