أقرأ في رواية (السنوات) للروائية الفرنسية آني أرنو -نوبل للآداب -٢٠٢٢ .
والتي قالت يوما (إن لم أكتبها لن تبلغ الأشياء مداها وستظل مجرد أشياء عشتها).
الرواية ليست رواية تقليدية بحبكة تصل لذروتها ثم تنفرج بل هي صور في الذاكرة ،صورة تلو أخرى، بالأبيض والأسود ،توقفت عند لحظتها عين كاميرا الزمن ،تضعها أمامك آني أرنو ثم تحولها إلى فيلم صامت تحكي لك هي أحداثه بصوتها.
صور لحياتها ،للحياة،لبلدها،للحروب، للألم ،للحب ،كيف كنا وكيف كبرنا وبأدق التفاصيل .
وأنا أقرأ صورها وأشاهدها بعين عقلي ،نبضت في ذاكرتي إحدى الصور، صوري الخاصة ، كصور أرنو ، لكنها بالألوان ، لفتاة في السابعة عشرة،ترتدي ثوب البيت الطويل، أزرق بأزهار بيضاء متناثرة ،شعرها البني معقوص كذيل حصان ،وجهها شاحب طفولي تحوم على صفحته وحشة اللاجئ لأرض غريبة ويتلألأ في عينيها أمل الغد المجهول .
قابعة في سريرها تقرأ في كتاب ،يدخل الغرفة شاب تفوح منه رائحة فرق مداهمة الخاطئين في أوكارهم .
ترفع رأسها وتنظر بصمت من قطعوا لسانه وأتلفوا حباله الصوتية ،تركوه يصرخ بلا صوت ، يلقي عليها نظرة احتقار وشك ،ثم يتجاوزها متجها بفرح ضابط مكافحة الجرائم حين يعثر على الدليل ،يفتح دولاب ملابسها المتهالك ،يمد يده يبحث عن شيء ما بجنون ،يمسك به ، يخرجه من مخدعه ،يلوح به أمام عينيها كدليل تستحق صاحبته القتل غسلا للعار ، ثم يمزق وريقاته واحدة تلو الأخرى ،ينثرها أرضا ،يسحقها بقدميه ،محذرا يمزج السؤال بالتهديد:
- دفترك مليء بأشعار وقصائد عن الحب ، لمن تكتبينها؟
- لم أكتبها بنفسي،أنا فقط نقلتها من الجريدة ، أنا أنا اااااا أنا فقط أحب مايقولون ،أحتفظ به لنفسي .
-ها قد مزقته لك ، جربي أن تعيدي فعلتك هذه مرة أخرى وسترين يااا…
تركها وهبط درجات السلم بقفزات سريعة ، كان قد تأخر على موعده مع الرقم (٣) ، يومه مزدحم ،ثلاث أو أربع حبيبات كل يوم ، ووقته ضيق لايتسع لكمية الهرمونات النتنة التي يسبح في قذارتها عقله.
مثل تمثال من الشمع ،في سريرها ظلت ساكنة، بلسان مقطوع ،وعينين تصبان سائلا تعودت طعم ملوحته ،ترنو لجثة الأوراق الممزقة ،عارها ،جرمها النقي.
في الطرف البعيد من الصورة ،دخلت امرأة متدثرة بغمامة من السواد ، سواد الثياب وسواد الأيام ،سألت بصوت من لايريد أن يسمع أجابة على سؤاله:
-مابك ؟
- أمي ، لقد مزقه ، أخي مزق دفتري ، القصائد التي أحب ، نظراته ألبستني رداءً لم أفكر به يوما ، لست سيئة ، تعلمين ذلك ، أنا فقط أهوى القصائد ، أحتفظ بها لنفسي ، لنفسي ياأمي.
توقف الفيلم وثبت على اللقطة الأخيرة من الصورة ، المرأة بثياب كلون الليل تبتعد بصمت من يصم أذنيه كي لا يسمع جوابا على سؤاله .
الصورة بالأبيض والأسود ثابتة في الذاكرة ، لفتاة بثوب طويل ، وشعر بني مربوط كذيل حصان ، تحتضن نفسها مقرفصة في السرير، أرضية الغرفة تعج بمزق صغيرة لوريقات بيضاء كحمائم تلفظ آخر أنفاسها .
وصوت عابر للزمن ،ظل يهمس، يدور في الفضاء ، يدور ، يدور ويهمس:
-لست سيئة ، كنت فقط أحتفظ بها لنفسي ،لنفسي.