لا تستقيم المعاملات الحياتية بصفة عامة والتجارية بصفة خاصة ،إذا تجاوز أبناء المعمورة في مختلف البلدان حدود العقل والمنطق وما تعارف الناس عليه من مباديء للسماحة والأمانة والصدق وعدم الغش والإلتزام بقواعد التربح المشروع.
وهي أعراف ومورثات تدعمها كافة القوانين الوضعية وتعززها قوانين الضمير الإنساني ومن قبلها التعاليم الدينية القيمة.
ومنذ قديم الأزل تحقق الاستقرار المعيشي عبر آليات منضبطة تحدد العلاقة بين مواطني البلد الواحد وقواعد التجارة والربح العادل الذي يحقق صالح الجميع مع أداء حق الدولة، وأي تجاوز يقترفه بعض أطراف هذه العلاقات يفقد هذه المنظومة مرونتها، وتوازنها وما استندت إليه من لوائح وقوانين وإجراءات ومن ثم تحدث أزمات متتابعة نتيجة لهذا الخلل ،وغياب المصداقية وانعدام الثقة المجتمعية.
وفي زمن سيادة القيم المادية والنفعية المطلقة ،يصطدم المواطنون دائما مع الواقع ومفاهيم الرأسمالية وما يسمي ب”ليبرالية السوق الحرة” ،والتي تفترض أن السوق ،سواء في داخل البلد الواحد أو علي مستوي الكوكب بأسره هي الموجه الأول والأوحد لمسار الاقتصاد.
وكما يقال فإن الأزمة تخلق أزمات أخري ،فمن أسوأ ما أفرزته الأزمات الطبيعية والمناخية ،علاوة علي الأزمات الأممية بصورها المختلفة والتي اقترفتها أيادي البشر خلال السنوات الأخيرة ،فكرة التخوف من القادم ،ومن ثم اتجاه فئات كثيرة النفعيين وفي مقدمتهم “تجار الأزمات” وبعض الوسطاء للهروب إلي ما هو أبعد من “الربح العادل” وربما الاستغلال الصريح أو “المقنع” انتهازا للفرص وإحتياجات الناس وخاصة من السلع والخدمات الأساسية، والهدف تحقيق أرباح طائلة علي حساب المستهلكين تحت مبرر اتقاء لشرور التقلبات السعرية والتغيرات المتتابعة!.
وبطبيعة الحال والمآل تتزايد مظاهر هذا العدوان وتأثيرات هذه الظاهرة مع التراجع القيمي وضعف الوازع الديني الذي يضبط إيقاع الحياة ويضع خطوطا فاصلة بين الحلال والحرام وبين الكسب المشروع وبطر الحق وغمط الناس.
وحتي كتابة هذه السطور ما زلت مقتنعا بأن هناك قوي خفية وحلقات وسيطة وظفت الأزمات المختلفة لصالحها ،وتجاوزت التربح من السلع الاستهلاكية فقط إلي كافة أوجه المعاملات الحياتية.
ومن ثم يقودنا هذا للبحث عن الأسباب الحقيقية التي زادت الطين بلة وضاعفت هموم وجراح المواطنين وأسهمت في وأد أحلام جيل بأكمله ،حيث وجه كل ما يملك من دخل ومقدرات لاستيفاء الالتزامات وتوفير الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب ومواصلات وكافة المستلزمات الحياتية اليومية والشهرية والسنوية!
وفي بلادنا اعتدنا زمنا طويلا علي الثبات في مستوي الأسعار وعلي هوامش مقبولة من الربح تترواح ما بين 10 إلي 20%، ولكن الملاحظ الآن أن هناك حالات من الإنفلات والمبالغة في تقدير هوامش الربح وصل إلى حد الجشع وتجاوز أحيانا ال 50% وربما أكثر وأحيانا ما يقارب من ضعف سعر السلع الأصلي بدون مبرر!
وهو ما كشف عنه تحقيق نشرته جريدتنا الغراء “المساء” مؤخرا حيث قامت الزميلة “هويدا القاضي” بمغامرة صحفية ،حيث التقت مع المزارعين في عدد من حقول الانتاج، وكانت المفاجأة التفاوت الكبير بين أسعار بعض الخضروات والفاكهة بين سعرها لدي خروجها من المزرعة وسعرها النهائي لدي المستهلك ،بعد أن مرت بعدة حلقات وسيطة من تجار الجملة والتجزئة والمنتفعين وعلي حساب المواطن!.
وعلي سبيل المثال كشف التحقيق الميداني أن سعر كيلو البطاطس والفلفل الرومي والطماطم يترواح في المزرعة مابين 8- 9 جنيهات ،بينما يتم البيع للمستهلك ما بين 20ـ25جنيها ،وهكذا في غالبية السلع.
والأدل علي هذه الفوضي في التسعير أن السلعة نفسها من الممكن أن تجد لها أكثر من سعر ،وربما علي بعد خطوات ،فكل تاجر يحدد نسبة ربحه كما يروق له وربما يغيرها عدة مرات في اليوم الواحد !.
أصابع الاتهام تشير إلى تجار الجملة الذين حققوا أرباحا طائلة ،من جراء هذه المضاربات غير المشروعة ،علاوة علي تورط الكثيرين في عمليات احتكار للسلع والمنتجات غير القابلة للتلف وتخزينها بكميات كبيرة للتحكم بخبث في بورصة التسعير وآليات العرض والطلب.
وبحثا عن الخروج من هذا المأزق اتخذت الحكومة إجراءات عديدة للحد من هذه الظواهر والوصول بالسلع والخدمات لأسعارها العادل وتقليل الحلقات الوسيطة التي يجيد توظيفها واستخدامها ثلة من المنتفعين.
وفي هذا السياق نظمت الغرف التجارية في معظم المحافظات ومؤسسة “حياة كريمة”، معارض مخفضة للسلع الغذائية والمنتجات الزراعية ، وحاول بعض الوسطاء أيضا التربح عبر شراء كميات كبيرة من هذه العروض ليتم المتاجرة فيها لاحقا!.
كما جاءت فكرة “سوق اليوم الواحد” كمحاولة لتقليل دائرة الحلقات الوسيطة وتحجيم تدخلات أباطرة الاستغلال.
وبعد نجاح تجربتها في الإسكندرية وبعض المحافظات تعتزم وزارة التموين والتجارة الداخلية تعميم الفكرة بمختلف المحافظات
بالتعاون مع وزارة التنمية المحلية خلال الأيام المقبلة فى مسعى جديد لتوفير السلع للمواطنين بأسعار مخفضة ومقبولة.
ومن المقرر إقامة هذه الأسواق في العديد من الأماكن بالعاصمة ومختلف المحافظات وتبدأ من الثامنة صباحا وحتى الخامسة مساء ، وبالتنسيق مع الشركة القابضة للصناعات الغذائية، بمشاركة أكثر من 50 شركة من القطاعين العام والخاص ومن المقرر أن يتم طرح جميع السلع الغذائية الإستراتيجية، إلى جانب اللحوم والدواجن المجمدة والخضراوات والفواكه، بتخفيضات كبيرة.
وفي هذا الشأن قال أحمد الوكيل، رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية رئيس غرفة الإسكندرية، أنه بعد نجاح مبادرة محافظة الإسكندرية بإقامة أسواق مخفضة على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع، سيتم تقديم الخبرة والمعونة الفنية إلى كل الغرف التجارية، لإنشاء منظومة متكاملة فى كل ربوع مصر، بهدف النهوض بالأسواق التجارية وتطويرها، ودعم صغار المنتجين، وتوصيل أجود السلع الزراعية والغذائية مباشرة من صغار الفلاحين والمنتجين إلى المستهلك، لخفض حلقات التداول، ومن ثم خفض الأسعار بنسبة تتراوح بين 20 و30%.
وانطلاقا من هذه الجهود مع وعي المواطن أتصور أن مواجهة التحديات ،وإيجاد حلول عملية لمشكلات زيادة الأسعار هو أمر من الممكن تحقيقه بتكاتف جميع الجهود وايجاد آلية فاعلة لضبط الأسعار في مختلف القطاعات.
وبعيدا عن القوانين واللوائح المنظمة لكافة المعاملات التجارية ، ودور الدولة بما تملكه من أجهزة رقابية ومحاسبية ، يظل الضمير الوطني والاجتماعي للمواطن هو الفيصل في حسم هذه المعادلة.
وبحثا عن آليات عملية لتحقق استقرار حياة أبناء المحروسة ،أتصور أنه من الحكمة التعامل مع هذه التحديات التي تقف عقبة في سبيل احساس المواطنين بآثار التنمية وما تحقق من إنجازات عن طريق تكثيف المزيد من البرامج التوعوية والدينية فالجميع في قارب واحد ،ويجب إعلاء المصلحة الوطنية في كل الأحوال ،ولو كره الكارهون.
أتصور أن مع اتجاه الحكومة لعدم تحميل أية أعباء جديدة وإرجاء أية إجراءات قد تصقل كاهل المواطنين ،ووضع حد فاصل لتدخلات البنك الدولي وصندوقه، فقد آن الأوان لحسم هذه التجاوزات وتحقيق هذا الهدف وبكل الوسائل.
وفي هذا السياق فقد وصف الله عز وجل الواقع بكل تفاصيله ومرارته ،يقول في محكم كتابه الكريم:
(أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَة رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)
صدق الله العظيم الزخرف(32).
ونقطف من بستان النبوة: قول المصطفى”صلى الله عليه وسلم” : (رحم الله رجلاً سمحـا إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى)رواه البخاري)، وفي رواية (وإذا قضى)، وما هي إلا صور من المعاملات اليومية ، التي تقتضي قدرا كبيرا من السماحة والمرونة والأمانة.
حفظ الله أرض الكنانة من كل مكروه وسوء.