لا جرم أن العهد الذي تفجرت فيه ينابيع العلوم من بيت الحكمة في بغداد، ودمشق عاصمة الأمويين، وقرطبة عاصمة الأندلس، كان العالم كله بين ظلامتين، طفولة حضارية في نواحي أوروبا وآسيا، وصحراء قاحلة جدباء في عموم الأمريكتين… لا أصل ولا فصل لبشر، إلا أكومة من الرمال والحجر…
كان فجر العلوم الطبيعية والإنسانية فضلاً عن الشرعية ينادي ويناجي من منابر بلاد العرب والمسلمين، وهذا ما يعزز انتفاء شبهة بعض الملاحدة وقاصري الفهم من المتأسلمين والمتعالمين، بأن المسلمين في القديم والوسيط والحديث كانوا عالة على ابتكارات غيرهم، وأنهم أعطوا ظهورهم للعلوم الطبيعية، منزويين على علوم الشريعة…
يُدبج جوستاف لوبون في كتاب حضارة العرب ما يبرهن على امتلاك المسلمين لقصب السبق في تأسيس المنهج العلمي، القائم على البحث والملاحظة والتجربة، والذي يُعزى للعالم العربي المسلم جابر بن حيان.. فيستطرد عنه قائلاً :
تتألف من كتب جابر بن حيان موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره، وتشمل هذه الكتب على وصف كثير من المركبات الكيميائية التي لم تذكر قبله، كماء الفضة ‘ الحامض النتري ‘ الذي لا نتصور علم الكيمياء بغيره …
والمنهج التجريبي عند علماء العرب والمسلمين يرتكز إلى زخائر الموجودات الربانية على ظهر الأرض وباطنها، من معادن هائلة، تحولت على أيديهم من معادن بخيسة إلى معادن نفيسة، وهي المعادن المنطرقة كالذهب، الفضة، النحاس، الحديد، الرصاص، القصدير، الزئبق، وهي المعادن السبعة الرئيسية، المسماه بالأحجار السبعة .. بالإضافة إلى عناصر الطبيعة الأربعة : النار، الهواء، الماء، التراب…
وكان المزج أو الدمج بين هذه العناصر وتلك المعادن حسب مقتضيات التفاعل الحيوي، هو أطلوقة ما عرفه الكيميائيون، بإكسير الحياة ….
وعلى ما سبق نبغت ونضجت عبقرية جابر بن حيان في ذلك العلم النفيس، ليكون حُجة على ما سواه من علماء الكيمياء الذين عاصروه أو الذين جاءوا من بعده، بما في ذلك الأوروبيين والأمريكيين…
وتجدر الإشارة أن جابر بن حيان هو أول من استحضر ماء الذهب، ودرس خصائص الزئبق… وأول عالم كيميائي يكتشف حمض الكبريتيك، وهو الذي أدخل تحسينات على طرق التبخير، والانصهار، والتبلور، والتقطير، والتكسيد، وقد ترك ميراثاً ناصعاً من أمهات الكتب في علم الكيمياء، التي عكف على ترجمتها جيشاً من علماء أوروبا.. والتي كانت ساعدهم الأيمن والأثمن، كحجر زاوية في بناء القواعد الأولية لاستخلاص أنصع الاكتشافات المعزوة للعلم الكيميائي في كل فجر وعصر …
فمن مؤلفات جابر بن حيان:
الرسائل السبعين الذي ترجم لللاتينية..
وكتاب أسرار الكيمياء، وكتاب الخواص الكبير، وكتاب المجرات وكتاب نهاية الاتقان، وكتاب السموم ودفع مضارها وغيرها… وظل في عيون التاريخ ورحم حقباته، أبو علم الكيمياء.. حقيقة لا مثنوية فيها، بشهادة الغرب قبل العرب…