يأتي مبدأ الأمن القانونى – أو مبدأ الاستقرار القانونى كما يُمكن تسميته- وفهم ماهيته فهماً كاملاً شاملاً، وعرض البناء النظرى للمبدأ عرضاً تفصيلياً، بدءاً بأصله الذى نبت منه وهو فكرة الأمن القانونى، إذ تعرض البحث لماهية فكرة الأمن القانونى كفكرة قانونية عامة- بالقدر الذى يتطلبه موضوع البحث الأساسى وهو فهم مبدأ الأمن القانونى- مبيناً أساسها الفكرى والفلسفى، وأهميتها التى جذبت إليها الفكر القانونى فى العصر الحالى،
بل وجعلتها مركزاً لاهتمام الفقهاء القانونيين والمؤسسات القضائية فى معظم الدول إن لم يكن جميعها، ثم اجتهد الباحث فى الوصول إلى تعريف دقيق للفكرة وتحديد شامل لنطاقها وتطبيقاتها المتنوعة والمبادئ العديدة المتفرعة منها، ثم أكمل الباحث العرض المختصر للفكرة بتتبع نشأتها تاريخياً، ومراحل ظهورها والاهتمام بها حديثاً، ومكانتها فى النظم القانونية التى أخذت بها مثل النظام القانونى الأوروبى والنظام القانونى الألمانى والنظام القانونى الفرنسى، وطريقها الذى شقته حتى بلغت ما هى عليه الآن من قيمة قانونية عالية فى تلك الأنظمة. وبعد التعرف على فكرة الأمن القانونى بحسبانها أصل المبدأ ومنبعه، تركز البحث على الإحاطة بمفهوم المبدأ وإيضاح مضمونه إيضاحاً تاماً، تعريفاً وطبيعةً، وبتحديد عناصره وحالاته التى تشكل نطاق إعماله ومجال تطبيقه،
كما أفاض الباحث فى تبيان خصائص المبدأ التى ميزته وأثرت فيه وشكلت طبيعته وتطبّعت بها تطبيقاته، وأخيراً وحتى يكتمل بناء المبدأ، بسط الباحث المبادئ الثلاث الرئيسية التى يتفرع إليها المبدأ، والتى تمثل فى مجموعها الهيكل التطبيقى للمبدأ، وهى مبدأ عدم رجعية القواعد القانونية ومبدأ احترام المراكز القانونية المُكتسَبة ومبدأ احترام التوقع المشروع، مستعرضاً مضمونها وشروطها ومعاييرها وحالاتها وما تتضمنه من قواعد فرعية تندرج فى نطاقها، وشارحاً لأثرها وما تكفله من حماية لاستقرار المراكز القانونية الفردية.
ثم وليحقق البحث غايته الأساسية بإدخال مبدأ الأمن القانونى فى النظام القانونى المصرى، وتحديداً فى مجال القضاءين الدستورى والإدارى، خاض الباحث فى أحكام هذين القضاءين متتبعاً ومتقصياً ما حوته تلك الأحكام من تطبيق للمبادئ الثلاث المكونة لمبدأ الأمن القانونى، ليخلص بتحليلها بصورة واضحة جلية عن موقف هذين القضاءين من تطبيقات مبدأ الأمن القانونى، وزاوية رؤيتهما له، ومكانه بين صفوف مبادئهما، وذلك حتى يمكن فى النهاية تبيُّن ما يفتقده هذان القضاءان من تطبيقات مبدأ الأمن القانونى، وما يتبقى من خطى نحو إدماج المبدأ فى النظام القانونى المصرى وتقليده المكانة التى يستحقها كأحد أهم المبادئ القانونية التى يتأسس عليها هذا النظام.
تم تسليط الضوء في هذه الدراسة على مبدأ الأمن القانوني وعلاقته بفكرة الحقوق المكتسبة في مصر وفرنسا، وذلك لما لمبدأ الأمن القانوني من أهمية كبيرة في الوقت المعاصر، حيث إنه يعتبر أهم الأسس التي يقوم عليها بناء الدولة القانونية التي تخضع فيها جميع سلطات الدولة للقانون، فهو يضمن الحماية القانونية للأفراد من خلال حماية الحقوق المكتسبة لهم في ظل الأوضاع القانونية الصحيحة والمشروعة، وحتى تتضح الرؤية، تم تقسيم هذا البحث إلى مبحثين، فقد تناول المبحث الأول مفهوم مبدأ الأمن القانوني في مصر وعلاقته بفكرة الحقوق المكتسبة، بالإضافة إلى بيان صور مبدأ الأمن القانوني لتوضيح مدى أهميته، وفى المبحث الثاني تم تناول مفهوم مبدأ الأمن القانوني ونشأته في فرنسا ثم بيان موقف المجلس الدستوري الفرنسي من مبدأ الأمن القانوني مع توضيح مدى إقرار المجلس الدستوري له في قراراته، وعلى الرغم من أن مصطلح الأمن القانوني لم يرد صراحة في النصوص الدستورية الفرنسية أو حتى المصرية،
إلا إنه لا يحول دون تبنيه ضمنيًا في مضمون وهدف هذه الوثائق الدستورية، فضلا على تأكيد مجلس الدولة الفرنسي على مبدأ الأمن القانوني في أحكامه، وتعتبر فكرة الأمن القانوني فكرة حديثة نسبيا، حيث إنه ترسخ ونشأ في ألمانيا منذ عام 1961، وتم الاعتراف به دوليًا منذ عام 1962 من قبل محكمة العدل الأوربية وأيضًا المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان منذ عام 1981، فقد أكد مصطلح الأمن القانوني على ضرورة الحفاظ على الطابع الدستوري للحقوق والحريات، وهو من أكثر المفاهيم القانونية تداولا في المجال القضائي والقانوني حاليا، فقد زاد الاهتمام به بفضل ما يتعرض إليه المجتمع المعاصر من تطورات متلاحقة سواء على الجانب الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، وعلى الرغم من ذلك يصعب وضع تعريف جامع مانع له، حيث إنه مصطلح متعدد الظواهر ومتشعب المعاني، إلا إنه يمكن تعريف مبدأ الأمن القانوني بأنه “حق كل فرد في الشعور بالأمان القانوني أو القاعدة القانونية، بالإضافة إلى حقه في استقرارها وعدم تعرضها للتغيير المفاجئ عليها”.
يعرف الأمن القانوني بأنه عملية وليست مجرد فكرة تشد في توفير خالة من الاستقرار في العلاقات والمراكز القانونية، وذلك من خلال إصدار تشريعات متطابقة مع الدستور ومتوافقة مع مبادئ القانون الدولي، غايتها إشاعة ثقة وطمأنينة بين الأطراف العلاقات القانونية من أشخاص القانون العام والخاص بحيث يجب على التشريع إن لا يتسم بالمفاجئات والاضطراب، أو تضخم في النصوص.
الأمر الذي قد يزعزع الحقوق والحريات الأساسية. ولتحقيق هذا الأخير لبدئ من وجود أمن قضائي الذي يتجلى في توفير الأمن والضمانات للمتقاضين أمام المؤسسات القضائية ولهذين المفهومين المتكاملين عدة تجليات تظهر بصورة واضحة في التشريع الجنائي المغربي وهذا ما سنتناوله من خلال مطلبين أساسيين:
المطلب الأول: مفهوم الأمن القانوني والقضائي
إذا كان مبدأ الأمن القانوني قد شاع منذ مدة طويلة وتركزت حوله مجموعة من المفاهيم والأفكار فإن مصطلح الأمن القضائي، أصبح يطرح بدوره عدة مفاهيم وتطورات خاصة على مستوى الدول السائرة في طريق النمو التي تعمل على تطوير قضاها من أجل تعزيز فرصها في جلب الاستثمار.
وفي سبيل الإلمام بالموضوع سنعمل على تحديد مفهومي الأمن القانوني (الفقرة الأولى) و الأمن القضائي (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم الأمن القانوني
يعتبر الأمن القانوني أحد أهم مقومات الدولة القانونية القائمة على السيادة القانون ومؤدى هذا المبدأ أن تلتزم السلطات العمومية بضمان قدر من الثبات للعلاقات القانونية وحد أدنى من الاستقرار للمراكز القانونية كي يتمكن الأشخاص من التصرف باطمئنان على هدا، من القواعد والأنظمة القانونية القائمة بأعمال وترتيب أوضاعهم على ضوئها دون التعرض لتصرفات مباغثة تهدم توقعاتهم المشروعة وتزعزع استقرار أوضاعهم القانونية فهذا المفهوم لم يكن معروفا في القدم حيث لم تكن مقومات الدولة الحديثة قائمة فلم يكن يوجد حقوق لا مراكز قانونية ففي عصر النهضة الأوربية حاول الفقهاء فصل فكرة الحق عن القانون وكان أرسطو هو أول من أشار إلى ازدواجية الانضمام القانوني بين الحق والقانون من خلال نظرية القانون الطبيعي.
ومع بداية القرن العشرين وجدت نظريات فقهية توصلت إلى نظام قانوني يكون أساس فكرة الإلتزام الذي تصدره السلطة هو عبارة عن مجموعة من الأوامر والنواهي أما الحق هو التزام يقع على عاتق شخص ما بعدم مساسه بحق شخص آخر أما الفقيه بول روبي الذي فصل فيه بين القاعدة القانونية والمراكز القانونية فالأولى تتميز بالعمومية والتجريد أما الثانية أي المراكز القانونية فهي قد تتناول المراكز الشخصية أو الخاصة والمراكز الموضوعية وعلى هذا الأساس بدأت تظهر بوادر فكرة الأمن القانوني.
أيضا فيما يخص النظريات الفلسفية التي ارتبطت بظهور القاعدة القانونية فهي عملت على تحديد معالم وعناصر فكرة الأمن القانوني والتي تتمثل في فلسفتين:
–فلسفة القانون الطبيعي: التي تؤكد أن القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية تحكم كذلك العلاقات الاجتماعية.
–فلسفة العقد الاجتماعي: التي رأى فلاسفتها أن الملكية الفرعية وما تتح عنها من تصادمات دفع هنا بالأفراد إلى التفكير في إبرام عقد فيما بينهم وسمي بالعقد الإجتماعي يمكن القول أن مصطلح الأمن القانوني مرتبط إرتباطا كبيرا بالقاعدة القانونية و بنشأتها ومذاهبها المختلفة فهو لا ينفصل تاريخيا عن مقومات بناء دولة القانون التي تأتي في مقدمتها القاعدة القانونية.
لكن فظهور فكرة الأمن القانوني كمصطلح قانوني فقد ظهر لأول مرة في سنة 1961 في ألمانيا حيث أكدت المحكمة الفدرالية الألمانية الدستورية هذا المبدأ، ثم بعد ذلك أصبح مبدأ عالمي حيث أصدرت محكمة العدل الأوربية قرارها بخصوص هذا المبدأ في سنة 1962 كما تناول المجلس الأوربي لحقوق الإنسان في قراراته موضوع الأمن القانوني وضرورة أن يكون النص القانوني قابلا للتوقع وكذلك وضوح القاعدة القانونية
أما بالنسبة للنظام الدستوري والقانون المغربي فقبل دستور فاتح يوليوز 2011 نجده لم يتضمن أية إشارة صريحة للأمن القانوني وان كان قد أشار إلى مجموعة من المفاهيم التي قد تساهم في تحقيقه خاصة الفصل 4 من الدستور لسنة 1996 ” عدم رجعية القوانين ” وبقي الشأن كما عليه في الدستور الحالي لكنه جعل حماية الأمن القانوني من المهام الملقاة على عاتق القاضي، بموجب الفصل 117 من الدستور إلى جانب تطبيق القانون وحماية الحقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم. أما القانون الفرنسي باعتباره المرجع الأساسي للقانون المغربي فهو كذلك لا يوجد الأمن القانوني بين نصوص التشريع والدستور الفرنسيين كما أن المجلس الدستوري الفرنسي يرفض صراحة الإعتراف بدستوريته ويتأكد ذلك بشكل ملموس من خلال مجموعة من القرارات الصادرة عن المجلس الدستوري الفرنسي التي تؤكد أن المجلس لا يعترف به كمبدأ دستوري، وتكرس من جهة مجموعة من المبادئ والقواعد التي تسعى في تحديد معالم الأمن القانوني من ذلك الأثر الرجعي للقوانين والتأكيد على ضرورة وضوح القاعدة القانونية وورودها في شكل قواعد معيارية
إن تحديد مفهوم الأمن القانوني بشكل جامع ومانع أمر صعب نظرا لكونه مصطلح متعدد الظواهر ومتشعب المعاني وواسع الدلالات وأن حضوره يكون دائما مستمرا في جميع مناحي الحياة إلا أنه بعض الفقهاء حاولوا قياسه على مبدأ الثقة المشروعة وآخرون حاولوا تقديم تعريف له على أساس المكونات اللغوية واللفظية.
فقد عرفه المجلس الدولة الفرنسية، بأن الأمن القانوني يقتضي أن يكون المواطنون دون كبر عناء، في مستوى تحديد ما هو مباح وما هو ممنوع من طرف القانون المطبق للوصول إلى هذه النتيجة، ويتعين أن تكون القواعد المقررة واضحة ومفهومة وألا تخضع في الزمان إلى تغييرات متكررة أو غير متوقعة.
كما أشارت محكمة العدل الأوربية في اجتهاد قضائي بخصوصه حيث ثم الإقرار بمبدأ الثقة المشروعة والتي تعد عنصر من عناصر الأمن القانوني وقرارات أخرى على أنه يجب أن يكون القانون قابلا للتوقع ومفهوم مع ضرورة وضوح القاعدة القانونية، كما تطرق مجموعة من الفقهاء للأمن القانوني على سبيل المثال xavier lagard حيث قال إن حديث رجل القانون عن إنعدام الأمن القانوني يشبه حديث طبيب الأمراض النفسية عن الضغط النفسي فالإحساس بالضغط النفسي في علم النفس كإنعدام الأمن القانوني في علم القانون وكلاهما أمر حتمي الوقوع في الحياة اليومية ولكنهما إذا تجاوزا الحدود المعقولة تحولا إلى حياة مرضية.
فمن خلال ما سبق يمكن أن نعرف الأمن القانوني ، على أنه هو حق كل فرد في الشعور بالأمان من القانون أو القاعدة القانونية وحقه في استقرارها وعدم تعرضها للتغيير المفاجئ عليها، وأنه نظام قانوني للحماية يهدف إلى تأمين ودون مفاجآت حسن تنفيد الالتزامات على الأقل، أو الحد من عدم الوثوق في تطبيق القانون، ولهذا المفهوم العام للأمن القانوني نجد ما يسمى بالأمن الجنائي والذي يمكن تحديد بالنظر إلى ضرورة إيجاد الطمأنينة في العلاقة بين الفرد والسلطات العامة في الدولة، من خلال الطابع الذي لا يأخذه وهو ضرورة عدم المساس بحريات الأفراد مما يولد نواة نحو الإستقرار ثم التنمية، فبمعنى آخر الأمن الجنائي يتولى عن طريق تحقيق أمر ينفي المجتمع ، أي تحديد صور السلوك التي يحظرها القانون والتي تستطيع أن تكون على مقدار من التطور بما يواكب مستجدات المجتمع ، أيضا وضع فلسفة واضحة تمنع الأفراد من اقتراف الجرائم في المجتمع من خلال بيان دقيق للأهداف المطلوبة للعقوبة
أيضا لابدا الإشارة إلى العناصر التي يتمحور حولها مفهوم الأمن القانوني، من بينها مبدأ رجعية القاعدة القانونية الذي يعد من أهم مقومات دولة القانون وتحقيقا لمبادئ العدل سواء تم النص عليه صراحة في الدستور أم لا، مبدأ تقييم الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية حيث الحكم بعدم دستورية قانون صادر في فترة زمنية معينة يمكن أن يمس بمبدأ الأمن القانوني للأشخاص ونظرا لجسامة الضرر الناتج عن الحكم بعدم دستورية قانون صدر في فترة ما هذا الأمر الذي دفع ببعض المفكرين إلى التأكيد على ضرورة وضع مجموعة من الضوابط لتحديد الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية وفي الأخير يمكن القول أن الأمن القانوني بالرغم من الأهمية الكبيرة التي يحضا بها على المستوى الوطني والدولي أصبح مطلبا ضروريا وأساسيا لتكرسي دولة القانون وكذا الحفاظ على حقوق الإنسان وحرياته التي لا تتم إلا بتعزيز مبدأ الأمن القانوني والذي يقوم على جعل النظام القانوني السائد نظام مرنا وفعالا في نفس الوقت يهدف إلى حماية الحقوق ويعزز الشعور والأمان والاستقرار.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا