كتب مجدى عيسى
«قاضٍ من مصر» في هذا العمل يمنحنا القاضي الأديب المستشار بهاء المري، رصدا من الطراز الفريد في الطريقة التي تنتج الأسرة المصرية مواطنا فذًا مهما كانت عوائق الأسرة، وفذًا مهما واجهته عقبات، يُمتعنا في هذا العمل بوسائل الأسرة الراقية في تذليلها ما تُواجهه من عوائق لإنتاج مُواطن يفخر به وطنه، ويُمتعنا بوسائل الإنسان السَّوي في مواجهته العقبات …!
نعم نحن هنا أمام عمل روائي ممتع، لكننا أيضا أمام وثيقة مصرية خالصة، تشهد للأم المصرية، تشهد للأسرة المصرية، تشهد للمجتمع المصري في كيفية تكوين مواطن، يفيد بلاده، ويعيش حياته سعيدا منتجًا مِعطاءً …
في هذه (اليوميات) سيجد نفسه كل شخص ربَّاه أهله على قِيم الأصالة والنُبل والأخلاق العليا، وهذه هي أهم سمة ينماز بها أدبنا العربي عن سائر آداب العالم؛ ثلاثة أصناف آداب العالم، مسرحي، نموذجه (تاجر البندقية) عن شكسبير، ومَلحَمي، نموذجه (إلياذة هوميروس)، وهذان صنفان نادران غاية الندرة في إبداعنا العربي، إن لم نستطع الحكم بانعدامهما لدينا، فأما الصنف الثالث عالميا فهو الأدب (الغَنائي) بفتح الغين، ونموذجه الأشهر عالميا جميع نتاجنا العربي في أجناس الأدب؛ يُبدع فيه الأديب، فيجد (الغَناءَ) فيه كل من يتلقاه، الأديب فيه (يغنيك) عن أن تحدثنا عن نفسك؛ لأنه يَسرد لنا دواخلك أنت …!
ذلك هو (الأدب الغَنائي) بجميع أجناسه؛ قريضا، وسردا، ومثلا سائرا، وحكمة عميقة، وخطبة جهيرة، و …
استطاع القاضي الأديب في إبداعه هنا التعبير عن أهم شرائح المجتمع المصري؛ شريحة أبناء(البيوتات) الراقية، كيف تُربِّى أبناءها، كيف يُنتج المصريون مُواطنا لا يقل عن أسلافه من لدُن خوفو وأحمس وتحتمس و …، ومن هنا تبرز إحدى الركائز التي يضطلع بها هذا العمل العبقري؛ يمنحنا القوة في استعادتنا شخصيتنا من جديد في مواجهتنا تيارات الحداثة التي تلتهم مثيرا من قيمنا، وتجتاح كثيرا من أصولنا، وتثير أبناء مجتمعنا ضد صُنوف الرِّباية الطيبة؛ هذا العمل يضع تلك الموجات في مواجهة صريحة أمام نقيضها الذى أنتجته أسرة، تحفظ القيم، وتُنمِّى الأصالة، وتستعيد في أبنائها أهم ما ورثناه عن أجدادنا …
نعم إن عنصر الخيال في هذا العمل ربما ليس مُحلقا، وليس وثابا، وليس متوفرا، إنما يبقى أن المتلقي أصلا ليس في احتياج إلى (خيال)؛ لأن (الحقائق) التي يواجهها هنا صارت في أيامنا أغرب من الخيال، صارت من النوادر أسس الرِّباية المصرية الخالصة بعد اكتساح الموجات المعاصرة القادمة إلينا من مجتمعات أخرى …!
وهنا نجد التحية واجبة علينا تجاه كل أسرة تحافظ على غرس قيمنا في أنفس أبنائها، ونوجه التحية إلى عبقرية السرد التي استطاع من خلالها (بهاء المري) أن يكشف للعالم كله أصدافنا ومحارنا ولؤلؤنا في تكوين نفسيات أطفالنا على تحمُّل المسئولية منذ نعومة الأظفار؛ أن يكون الطفل رجلا، يمارس سلوك الكبار، وهو بعد في يفاعته.
والنقطة الأخيرة هذى هي واحد من أهم أهداف الأدب، أعني (نقل المعرفة)؛ فقد نقَل (بهاء المري) إلى قُرائه تلك (المعرفة) بأسُس مجتمعنا وعائلاتنا وأصولنا.
أيضا من أهداف الأدب (إثارة المتعة)، وهذا الهدف يشهد به أن عَين المتلقي تبدأ بالغلاف، فلا تخطئها فكرة ولا كلمة، وتستمر في شبق التلقي حتى يفجأها الغلاف الآخر رغم طول العمل، ومن دون شعور ببذل جهد …!
ثم إن هذا العمل ينماز بواحد من أهم أهداف الأدب أيضا، أعنى (توسيع الإدراك)؛ حيث إنه يمنح المتلقي وسائل متنوعة في مواجهة مصاعب الحياة، كيف تستحيل المصاعب إلى متعة، واضح ذلك في فقراته جميعا، من ذلك مَثلا صعوبة انتقاله من منزله إلى نيابة منوف كيف أحالها إلى خير عميم ليس فقط في أدائه العمل فرديا، وإنما أحال النيابة كلها واستراحتها إلى خلية نحل، تُنتج أصفى عسَل …!
ومن أهداف الأدب الواضحة في هذا العمل (إعادة تشكيل الوجدان)، بما يمنح كل أسرة طموحات متنوعة في إنتاج أبناء متفردين، يفيدون المجتمع في إعلاء القيم النبيلة …!