يتسائل الآباء لماذا تحمل مياه القنوات طعما مرا، وهم بأنفسهم من سمموا النبع !، جون لوك
تعالوا معي في رحلة قصيرة داخل الدماغ البشري لنرى ماالذي يحدث فيه:
لنفترض أنك تأخرت صباحا عن عملك، وحين وصلت أخيرا بعد أن تبعثر سلامك النفسي في الزحام المروري وذهب مع الريح ،وتهالكت خلف مكتبك البائس لتلتقط أنفاسك،وتمسح عرق جبينك الملتهب، وإذا بزميلك الشمبانزي الشامت يطل برأسه المربع وعلى وجهه ابتسامة صفراء براقة، ثم يخبرك بأن المدير يطلبك حالا في مكتبه ،ويشيع قوله بغمزة بغيضة ،فتفهم بأنك ذاهب لعذاب القبر لامحالة .
فتجرجر أذيال خيبتك وتقف أمام مديرك المنتفخ الأوداج والكرش ،سيوبخك ويمسح بك بلاط غرفة المكتب بسبب التأخير ،فتنظر أنت والحريق بدأ يلتهم خزان المشاعر الصغير داخل دماغك، وهو شيء يشبه اللوزة يسمى باللوزة الدماغية -amygdala وهي المسؤولة عن المشاعر والعواطف ومنها مشاعر الخوف والغضب والحب ،سيحدث لك انفجار انفعالي في لوزتك الدماغية فيتنبه له مستودع الذكريات هناك والمسمى بالحصينhippocampus ، فيسحب لك كل الذكريات المريرة المخزونة فيه من مواقف مشابهة حصلت مع هذا المدير النتن ،سيحتقن وجهك وستشعر برغبة جامحة لتلقم هذا المدير الشبيه بفرس النهر لكمة على أنفه تعلمه الأدب ،هنا تتدخل قشرة الفص الجبهي للدماغ حالا prefrontal cortex والتي تقع خلف جبهتك مباشرة ورغم أنها رقيقة جدا ولايتجاوز سمكها بضعة مليمترات إلا أنها تحوي مليارات الخلايا العصبية.
هنا الحكم الفصل بين أن تلكم مديرك ببوكس على أنفه أو أن تعتذر بلطف مع وعد بأن لاتتأخر في المرات القادمة سيكون لقشرة فصك الجبهي الدماغية الجميلة والمذكورة في القرآن الكريم باسم (الناصية).
ستقول لك قشرتك أن هذا المدير الشبيه بفرس النهر يستحق بدل اللكمة ألف بوكس ورفسة، لكن إن فعلت ذلك ستحال الى التحقيق حالا ثم تفصل من عملك وتتحول إلى عاطل بائس مديون ،فحاول أن تكظم غيضك واعتذر بلطف واستر علينا والنبي وماتوديناااش في داهية.
تحدث هذه التفاعلات بين أجزاء دماغك بسرعة فائقة جدا وكأنك تقطع مائتي ميل في الساعة الواحدة ودون أن تنتبه وتعي .
تخيل معي لو أن قشرة فصك الجبهي قليلة النشاط ولاتعمل بشكل جيد فماالذي سيحدث من كوارث حينها!!!
طبعا ستتخذ قرارات خاطئة اندفاعية ،سترفس مديرك ، وتسحل زوجتك من شعرها ان تجسست على هاتفك واتهمتك بأنك تحادث أخريات ، وهذا مايفعلنه أغلب النساء طبعا ، ثم تجلس على قارعة الطريق وتغني (تفيد بأييه ياندم ياندم )، وببساطة ستكون أفعالك تحت سيطرة لوزتك الدماغية المهتاجة لأن قشرتك الدماغية المعطوبة فقدت السيطرة على اللوزة المتمردة وهذا ماسمته عالمة النفس مارشا لينهان ب(عقل العاطفة) والتي كانت مصابة باضطراب الشخصية الحدية borderline personality disorder واسأل مجرب ولا تسأل حكيم ،لكنها كانت حكيمة ومجربة في الوقت ذاته ،فاكتشفت لنا العلاج الجدلي السلوكي DBT لمساعدة المصابين باضطراب الشخصية الحدية للسيطرة على مشاعرهم وتفعيل عمل قشرة الفص الجبهي لتعود السيطرة لها وليست للعاطفة النابعة من اللوزة الدماغية والمصابة كذلك بفرط النشاط عند أصحاب اضطرابات الشخصية وخاصة الشخصية الحدية.
يحدث هذا العطب للقشرة الدماغية وتظهر أغلب اضطرابات الشخصية في سن المراهقة والسبب هو العنف اللفظي والجسدي الذي تعرض له الطفل المسكين أو الإهمال المفرط، مع وجود بعض الإستعداد الجيني للإضطراب، عندها سيكبر وتكبر معه عذاباته ثم يتسائل الآباء كما قال جون لوك لماذا تحمل مياه القنوات طعما مرا وهم بأنفسهم من سمموا النبع !!
ولايمكن أن نلوم شخصا مصابا بضعف قدرته على التحكم في مشاعره نتيجة اضطراب نفسي لأننا سنكون كمن يوبخ ويصرخ في وجه شخص غير قادر على قيادة الدراجة والتحكم فيها،الحل هو أن تدربه على القيادة لا أن تغضب منه.
رفقا بأبنائكم
Psychologist