كنت أنظر إليها بعيني الدهشة ، أنا آتية من الماضي ، وقد سبقتني هي إلى المستقبل بثلاثة عقود.
أقف قبالتها وأنظر ، كنت ملتاعة مخذولة دامعة العينين لكن حرارة نبيذ الأمل المُسكر تغذي جسدي وعقلي لأستمر بالجريان المحموم ، أحمل على كتفيّ النحيلتين الفتيتين حقيبة ظهر، ملأى بأحلام أثق أنها ستتحقق ، لا أدري من أين أتيت بتلك الثقة الساذجة!! ، ربما هو خبل الشباب أو أمل الغريق حين تمر بقربه قشة .
هي تجلس على مرتفع ، يشبه التل ، لكنه ليس من التراب ولا من الرمل ، بل من أمنيات مسحوقة ووعود كاذبة ووجوه مزيفة وسنوات محترقة ، كانت تجلس على تل خيباتها تضحك للريح ، بوجه زاده ضياع العمر سحرا.
أومأت لي برأسها ،فهمتُ من إشارتها، أن، نعم، هذا ما سيحدث في نهاية الرحلة ، ستنتهين من حيث بدأتِ ، بيتك سيكون هذا التل، ووجهك للريح تصفعك متى شاءت، ستستبدلين البكاء بالضحك ،لأن طابور الخيبات كان طويلا ، يدفع للسخرية، ثم راحت تدندن بأغنية أعشقها جدا ، تملكني الرعب، تساءلت، لماذا نحب أنا وهي نفس الأغنيات رغم آلة الزمن التي تفصل بيننا؟؟!!
لمَ ماتبقى منها ، خيال امرأة، أجد فيه شبه كبير مني؟!! ، لكن أفكاري أخرسها صدى صوتها العذب حين وصلتْ لكلمات الأغنية ذاتها والأقرب إلى قلبي :
(وبقيت وانت معايا الدنيا ملك أيديا /أامر على هوايا تقول أمرك ياعنيا)، آه حليم وصوته الساحر .
قلت في نفسي، ماهذا الجنون، كيف لمن نال العطب من سنوات عمره وراح يتنفس دخانها الأسود ويعتلي تل خيباته وحيدا مهجورا بإمكانه أن يبتسم!! ،يغني،يتمايل مع الألحان كما ريشة سقطت من جنح طائر وتاهت لامبالية بماحدث وماسيحدث ، فاشتعلت في دمي فورة من الغضب من قوة امرأة التل الغريبة هذه ، وراح خجلي من نفسي يركلني في خاصرتي وجبهتي ، لمَ أنا أسيح حزنا من خيبتين أو ثلاث بينما هي تضحك مبتهجة وهي تعتلي تل سنواتها التالفات؟؟ !!
فقررت أن اقترب منها أكثر ، شيء ما فيها يناديني ، شيء ما يربطنا معا ، لابد أن أعرف السر خلف أمل اليائسين هذا ولمَ يضحكون؟ !
لم يتبق بيني وبينها سوى خطوتين ، فإذا بالضحكات قد سكنت وأغنيتنا المشتركة انتهت و(سكت الكلام) ، هي مازالت جالسة فوق تلها ، ثغرها يشي بابتسامة مصنوعة من علقم مر ، لكن عينيها غابتا خلف إغماضة جفنيهما الأبدية ، سكنت وهدأت ملكة تل الخيبات سكونها الأخير ، رحلت ساخرة رافعة أصبع كفها الأوسط لحياة لم تر منها سوى وجه حالك السواد ، لكن رعشة تملكتني من قدمي حتى رأسي حين نظرت عن قرب في وجه ملكة تل الخيبات والأغنيات التي أعشق ، فرأيت وجهي هو وجهها !! ، أنا آتية من الماضي ، وهي من المستقبل الذي أهرول نحوه بنفس خطواتها، أنا ،هي ،أنا ، الأغنية التي أعشق، خيبة،ثلاث،أربع،تل من الخيبات،فتعثرت بظلي فزعة ،تركتها هناك ورحت أركض بعيدا عنها متخففة من حقيبة ظهري ومن ثقتي ومن أحلامي ،غيرت جميع خططي ،وسلكت دروبا أخرى كنت أخشى ولوجها، لأنها وعرة طويلة لكن نهاياتها غابات خضراء لامكان لتلال الخيبات فيها.
كنت أهرول وأسابق الريح وكل ما يشغلني هو أن أغير الماضي كي يتغير المستقبل ، لا أريد أن أموت وأنا أضحك من شدة الألم أعتلي تل خيبات صنعتها بيدي ، لا ، لن (يسكت الكلام) ، سأصنع حكاية جديدة ،لن يأخذ الأوغاد فيها دور البطولة حتى لو كان الأوغاد أجمل جزء من الحكاية كما قالت ايزابيل اللندي ،لكن ألما حادا قبض على رأسي وكتفي ،ففتحت عينيّ وأنا أحاول فهم ماالذي يحدث،فوجدتني قد سقطت من السرير وارتطم رأسي ببلاط غرفة النوم، لأنني كنت أركض أثناء نومي في حلم غريب بساقين عشرينيتين فانزلقت من سريري وعانقت البلاط البارد ، عندها رفعت بصري نحو التقويم المعلق على الجدار المقابل للسرير ، فوجدته يبتسم ويمد لي لسانه ويهمس بخبث (أنا عام ٢٠٢٤ أيتها الحمقاء ، هيا عودي إلى التل واجلسي هناك ….ياملكة ال…. )