نصيحة لكل من سيقرأ هذا المقال أن يعير كامل انتباهه لما سيقرأه لأنه يحتوي على حقائق أغرب من الخيال ذاته (لا ينصح قرائته لمن يعاونون من الوساوس القهرية).
البداية:
البداية كانت من سؤال بديهي بسيط، ولكن برغم بساطته سبب الكثير من اللغط والخلاف بين علماء الماضي والحاضر:
هل الضوء عبارة عن أمواج أم جسيمات؟
أول من فكر في إجابة هذا السؤال الذي يبدو في ظاهره بسيطاً لكنه في غاية الغموض والتعقيد، هو العالم الإنجليزي الشهير إسحاق نيوتن. ففي العام 1704 نشر إسحاق نيوتن كتابه الشهير البصريات، والذي ذكر فيه أن الضوء يتكون من جسيمات صغيرة جداً تتحرك في خطوط مستقيمة بسرعة هائلة جداً، فيما عرف بـ”نظرية الجسيمات الضوئية”.
واعتمدت هذه النظرية في الأوساط العلمية إلى ما يقرب من مائة عام، حتى العام 1801 عندما قام العالم البريطاني “توماس ينج” بعمل تجربة ذكية لإثبات طبيعة الضوء.
تجربة الشق المزدوج:
قام العالم توماس ينج بعمل تجربة بسيطة “تجربة الشق المزدوج” من خلال تسليط شعاع ضوء عبر حاجز مانع به شقّان متقاربَان واستقبال الشعاع الذي سينفذ من الشقين المتقاربين على لوح حساس للضوء.
والهدف من ذلك كان إثبات ماهية الضوء، فإذا كان الشعاع النافذ من الشقين قد أظهر خطين مستقيمين على اللوح المستقبل، فهذا سيعني صحة نظرية إسحاق نيوتن في أن الضوء عبارة عن جسيمات لأنها تسقطت بشكل مباشر على اللوح المستقبل دون حدوث أي تداخل.
أما إذا كان الضوء النافذ إلى اللوح المستقبل عبارة عن خطوط متشابكة مشتتة بعضها ظاهر وآخر خافت تختلف في درجة وضوحها، فهذا سيعني أن الضوء عبارة عن أمواج تداخلت فيما بينها. ومن طبيعة الموجة أنه إذا التقت فيها القمم بالقمم ستكون أقوى، وإذا التقت قمة بقاع سوف تُلاشيها ويكون الناتج صفراً، وهذا ما سوف يسبب اختلاف درجة سطوع الضوء على اللوح المستقبل.
نتيجة التجربة كانت صادمة للأوساط العلمية لأنها دحضت نظرية إسحاق نيوتن وأثبتت أن الضوء عبارة عن أمواج متداخلة. وهذا ما ظهر على اللوح المستقبل لشعاع الضوء بوجود خطوط وبقع مضيئة وأخرى خافتة (نمط التداخل والحيود الموجي)، وهذا ما يعني استحالة اعتبار الضوء على أنه جسيمات.
ولكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، ففي عام 1905 أثبت العالم الشهير ألبرت أينشتاين أن الضوء عبارة عن جسيمات صغيرة تسمى فوتونات (وهذا التفسير هو أقرب ما يكون لتفسير إسحاق نيوتن قبل مائتي عام من تفسير أينشتاين).
ومن الجدير بالذكر أن أينشتاين قد حصل على جائزة نوبل على شرحه لهذه الظاهرة وليس على نظرية النسبية التي اشتهر بها وكانت بمثابة ثورة علمية في مفاهيم الكون ونسبية الزمن.
طبيعة الضوء بين كونه جسيمًا أو موجة سببت لغطاً وتشتتاً في الأوساط العلمية حتى كاد أن ينقسم العلماء إلى قسمين، بين مؤيد ومعارض لطبيعة الضوء الموجية أو الجسيمية. وإن كان الأقرب للتفسير هو تفسير أينشتاين، الذي اعتبر أن الضوء برغم كونه جسيمات دقيقة (فوتونات)، إلا أن هذه الجسيمات لها طبيعة موجية. أي أنه يجمع ما بين الموجة والجسيم.
إعادة نظرية الشق المزدوج:
لم يعطِ تفسير نيوتن جواباً شافياً لبعض علماء الفيزياء، والذين بدورهم قرروا إعادة تجربة الشق المزدوج مع التطور العلمي وذلك من خلال الإلكترونات بدلاً من الضوء.
في عام 1974 قام العالم جيان ويدمان بإعادة تجربة الشق المزدوج من خلال إطلاق الإلكترونات عبر الشق المزدوج. وكان من المنتظر أن تظهر في صورة خطين على الحائل المستقبل، ولكنها أظهرت أنماط التداخل والحيود، مما يعني أنها برغم أنها جسيمات، إلا أن لها طبيعة موجية. وبقياس ذلك على الضوء، فإنه يثبت صحة نظرية أينشتاين.
ومع التقدم العلمي تم إعادة هذه التجربة مرة أخرى بإطلاق فوتونات منفردة على الشق المزدوج. ومن الغريب أنه برغم إطلاق فوتون وحيد إلا أنه انقسم ونتج عنه نمط التداخل (الخاصية الموجية). وعندما قرر العلماء مراقبة الفوتونات لتفسير هذه الظاهرة الغريبة كان الناتج أكثر غرابة، حيث تصرف الفوتون كجسيم وليس كموجة وظهر على الحائل المستقبل خطان مستقيمان.
وهذا أمر أقرب ما يكون للسحر منه للواقع، فهذا يعني أن الفوتون يتصرف كموجة بطبيعة الحال ولكن إذا تم مراقبته يتصرف كجسيم. وهذا استنتاج خطير جداً يدل على أن الفوتون يشعر أننا نراقبه ويتصرف بناءً على ذلك.
وهو ما يدل على أن الذرات والفوتونات التي تعتبر مكونة لكل شيء من حولنا تتصرف بطريقة مغايرة لما هي عليه عند النظر إليها. فلو اعتبرنا أن الفوتون المشار إليه في التجربة هو أي شيء من حولنا مثل الحوائط وأدوات المنزل أو أي شيء في الفضاء مثل القمر والنجوم، فهي تكون موجودة فقط عند النظر إليها، وحين لا ننظر لها تتغير صفتها.
الأغرب من ذلك أن النظريات الحديثة أثبتت أن الإلكترونات عند عدم مراقبتها تكون موجودة في أكثر من مكان في نفس الزمن، وتتحرك في كل مكان في نفس الزمن، وتنتقل من مدار لآخر في زمن صفر. أي تكون موجودة في نفس الوقت في أكثر من مدار.
وهذا ما يدعم فكرة وجود الأكوان المتعددة، لأن هذه الذرات هي المكون لكل شيء من حولنا بما فيها نحن، أي أن أجسامنا بنفس صفتها وطبيعتها موجودة في أكثر من مكان في نفس الوقت.
المقال لا يتسع لشرح ذلك بمزيد من التفصيل، ولكن ما ذكرته هو ما أثبتته التجارب العلمية الحديثة، لا سيما المتعلقة بميكانيكا الكم التي أذهلت العلماء الذين تخصصوا فيها.
يعتبر العالم الألماني ماكس بلانك هو المؤسس لنظرية الكم وحصل فيها على جائزة نوبل في عام 1918. وبرغم ذلك أكد أنه لم يصل لشيء في علوم ميكانيكا الكم، وأن من يدعي أنه فهم شيئاً في ميكانيكا الكم فهو جاهل بالفطرة.
الأمر هو أقرب للجنون منه للحقيقة، ولكن هذا ما أثبتته وتثبته النظريات العلمية يوماً بعد يوم، لتثبت عجز الإنسان وضآلة علمه وعقله أمام علم خالقه، برغم كل هذا التقدم الذي نظن به جهلاً أننا امتلكنا تلابيب العلم ووصلنا إلى أبعد مدى في فهم الظواهر والموجودات من حولنا التي كنا نظن فهمها سهلاً بديهياً.
“وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” – صدق الله العظيم.
عضو الاتحاد العالمي للصحة النفسية