نص كلمة ا.د. أحمد يوسف علي في اليوم العالمي للاحتفال باللغة العربية بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة اليوم الاثنين الموافق ١٦ ديسمبر 2024
نعوت الشعر ونعوت القصيدة 1
ظل الشعر فن العربية الأول لقرون طويلة امتدت حتى بدايات القرن العشرين، لم ينازعه الصدارة إلا الفنون الأدبية الجديدة التي عرفتها العربية وعلى رأسها الرواية والقصة القصيرة والمسرح النثري. أو ما عرف بفنون السرد. ولذلك ظلت الأسئلة عن ماهية الشعر ووظيفته أسئلة حاضرة في وعي المفكرين من النقاد والفلاسفة والبلاغيين. وكان لكل عصر من عصور الفكر العربي تصوراته عن الشعر وعن علاقته بالواقع، وبالعلم والفنون الأخرى كالغناء والموسيقى والنحت والتصوير والرسم. ولم يفكر ناقد من النقاد أو فيلسوف من الفلاسفة في نعوت الشعر ونعوت القصيدة، وكان الشعراء هم الأسبق إلى اكتشاف العلاقة بين الشعر من ناحية، والقصيدة من ناحية أخرى، وبلوروها في نعوت وضعت الشعر في موضع الذكورة، والقصيدة في موضع الأنوثة. وإذا كان النقاد والمفكرون قد حرصوا على تقديم نسق فكري كلي مترابط يفسر ما هو الشعر، وما دوره، وما طبيعة لغته، فإن الشعراء قد حرصوا على ذلك كل الحرص ولكن على نحو مختلف وهو تقديم المفاهيم العامة المتغيرة عن الشعر في لغة يغلب عليها المجاز، وأصداء السجال بينهم وبين المتلقين الذين كانوا جمهورا أوسع من جمهور النقاد. لذلك جاءت هذه المفاهيم إما صدى لمعاناة تجربة كتابة الشعر، أو معاناة تجاهل الشاعر وفن الشعر الذي يقدمه في قصيدته، أو ترجمة لإحساس الشاعر بأن النقاد أبعد عن فهم ما يقدمه من الشعر والقصيد، أو بحثا عن مكانة الشاعر بين قادة الرأي مثل الفلاسفة وأهل الرأي من الكتاب، أو رجال الدين أو القادة من الحكام والسياسيين.
ولانستطيع القول بأن هذه المفاهيم ذات نسق كلي مترابط مثل النسق الذي نجده عند غيرهم من النقاد والمفكرين، ولكن هذه المفاهيم لها سمتان الأولى أنها وليدة الخيال الشعري فهي ذات طبيعة مجازية، والثانية أنها علامة على الفكر والثقافة السائدين في زمن الكتابة. فهي ذاتية تمثل قائلها، وهي موضوعية تشير إلى ما هو سائد من فكر ومثل جمالية وقيم واتجاهات. وهذا ما نجده في نعت الشعراء الشعر، ونعتهم القصيدة وربطهم نعت الشعر بماهيته ونعت القصيدة بدوره وتأثيره.
وقد التفت الشعراء التفاتا كبيرا وواسعا إلى هذه المسألة في تراثنا الشعري ابتداء من القرن الثالث الهجري، أكثر من غيرهم من الشعراء في القرون السابقة. ففي القرن الثالث الهجري وجدنا أكبر شاعرين وصفا الشعر ووصفا القصيدة هما أبو تمام وابن الرومي.
ونظرية الشعر عند النقاد والمفكرين على قدر أهميتها، لم تكن ثرية مثل هذا الثراء الذي وجدناه عند الشعراء، ولا تكتمل هذه النظرية إذا لم ننتبه إلى المفاهيم والتصورات التي جعلت للشعر نعوتا وللقصيدة نعوتا أخرى. ولذلك نتناول في هذا المقام شاعرا واحدا قدم تصوراته عن الشعر وعن القصيدة في ديوانه الذي كتب له مقدمة غير مسبوقة إلا عند أبي العلاء المعري. هذا الشاعر هو ابن خفاجة الأندلسي.
وبداية، نقول إن الشعر معنى كلي عام نجده في كل مظاهر الحياة الاجتماعية والطبيعية، وهو معنى جمالي يتشكل في كل أشكال الفنون التي عرفها الإنسان. فهذا المعنى ليس وقفا على القصيدة وحدها، بل هو متصل بالجانب الوجداني من الحياة، وهو غير محدد بحدود ولايتشكل بشكل إلا إذا التقط الشاعر نصيبا منه في شكل كتابي اسمه القصيدة. وإذا كان الشعر معنى كليا عاما، فإن القصيدة شكل شعري لايتميز بالثبات المطلق، ويتغير حسب المتغيرات الاجتماعية والحضارية التي تفرض على الإنسان ما نسميه بإيقاع الحياة في كل فترة تاريخية. هذا الإيقاع هو الذي يدعو الشاعر إلى أن يكتب قصيدة ذات شكل جديد جدة نسبية لايخلو من الإيقاع ولا يخلو من المجاز.
وإذا كان ابن خفاجة نعت القصيدة بنعوت الأنوثة، ونعت الشعر بنعوت الذكورة، فما النعت الشائع عنده؟ إنه نعت القصيدة والشعر في مائة وسبعة وثلاثين بيتا من شعره، غير ثلاث قطع نثرية في رسائله التي أعقبت القصائد في الديوان. ولكي نصل إلى النعت الشائع، فلا مفر من تتبع هذه المادة لمعرفة هذا النعت. وجاء هذا النعت في صيغة الفعل الأمر، أو اسمه، أو ما يحمل معنى الأمر، كما جاء في صيغة الفعل الماضي، أو مشتق من المشتقات، أو تركيب إضافي.
وصيغة فعل الأمر وما يتعلق به هي الأكثر شيوعا في مطلع المقطوعات، أو في أوسطها وتحمل معنى التأنيث وهي حسب ورودها في متن الديوان:
“اقبَلها إِلَيكَ” “وَإِلَيكَ مِن حَوكِ البَديعِ قَوافِياً” ” خُذها إِلَيكَ” ” فَخُذها إِلَيكَ” “وهاك فاقبلها” ” فَدونَكَها” “وَدونَكَ..زبية” ” فخُذها” ” خُذها” “وَإِلَيكَها” ” فَحَبَّذا نُطفَةٌ” “وَإِلَيكَها فَاِهنَأ بها” ” وَإِلَيكَ” “وإليكها”
أما صيغة الفعل الماضي، فلم ترد في المطالع وأتت في ثنايا الأبيات وتحمل معنى التأنيث. وهي حسب ورودها في متن الديوان:
” خَلَعتُ قَوافيها” ” أرَقتُ بِها” ” نَظَمتُ بِها” “هَزّ النَشيدُ” ” زَفَّت” ” هَزَّت” ” وَرَأَتكَ” “فَاِنتَحَتكَ” ” حَمَلَت” ” نَشَأَت” ” نَجَمَت” ” وَأَتَتكَ” ” بَسَطَت” ” فَاِستَضحَكَت” ” ملأت” “صَدَّتِ” ” حَيَّت” “حَمَّلتُها” “عَبِقَت” ” َهَزَّت” ” نَشَأَت” ” رَقَّت” “عَلِمَت” ” َفأَتَتكَ”
أما المشتقات، فهي حسب ورودها في متن الديوان:
” تَحِيَّةً” ” مَحاسِن” “نَضيرَة” “َبهجَةٌ” ” الراحِ” ” خريدة” ” حَسناءَ” ” نُوّارَةً” ” زُبيَةٌ” “ِمسكَةً” ” عَنبَرَةً” ” شَهباءَ” ” رَوضَةٌ” ” بَسّامَةً” ” غَرّاءَ” “حُلَّةٍ” ” نُطفَةٌ” “زَهرَةٌ” ” عَقيلَةً” ” خلعة”
أما التركيب الإضافي فهو حسب وروده في الديوان:
” عُذرَةَ الأَبكار” ” قَليلَةَ النُظَراءِ” ” عَبَقَ العَروسِ” ” وَخَجلَةَ العَذراءِ” ” وارِسَةِ القَميصِ” ” أَسِرَّةَ السَرّاءِ” ” الغُرَّةِ الغَرّاءِ” “صقيلة ثغر الحسن” ” أَكرَمَ حِليَةٍ” ” ِمن حَوكِ وَشيٍ” “حُرِّ الكَلامِ” ” خَجلَةُ العُذَراء” “ِ مِشيَةَ الخُيَلاءِ”
إلى جانب هذه الصيغ من الأفعال والمشتقات، وردت مفردات تتعلق بزينة المرأة نعت بها ابن خفاجة القصيدة هي:
“عقد نفيس” ” قِلادَةٌ” ” وشاح”.
أما النعوت الأخرى فكانت للشعر الذي ذكره صريحا أو ذكر ما ينوب عنه وهو الكلام ومثلت هذه النعوت معنى الذكورة وهي حسب ورودها في الديوان:
“ثناء” ” أَرِقتُ أَغوصُ عَلى دُرِّهِ” ” كَلامٌ يَرِفُّ النورُ في جَنَباتِهِ” ” يشِفُّ سَوادُ النَقسِ عَنهُ” ” دُعاءٌ لَو دَعَوتُ بِهِ جَماداً” ” كَلامٌ كَما اِستَشرَفتَ جيدَ جَدايَةٍ” ” أَتاني يَرِفُّ النَورُ” ” وَتَأخُذُ عَنهُ” ” وَجَدتُ بِهِ” ” كَلامٌ إِذا ما طَرى طَرَّبا” ” كَلامٌ يَجِدُّ بِلُبِّ الفُتى”
” وَلِلشِعرِ عِندي كُلَّما نَدَبَ الصِبا” “وحسبك من شعر يضاهي الشعرى إشراقا”” خلَعَ الثَناءُ” ” خلَعَ الثَناءُ” ” خَطيرٌ مِنَ الشِعر” “سُطورُ الشِعرِ خَيلٌ لَهُ دُهم”
فابن خفاجة ينعت القصيدة بغير ما ينعت الشعر. والاختلاف بين النعتين واسع. فنعت القصيدة ورد في صيغ نحوية وتعبيرية كثيرة، هي فعل الأمر واسم فعل الأمر وما يحمل معنى الأمر، والفعل الماضي، والمشتقات، والتركيب الإضافي. فمساحة التنوع واسعة. أما نعت الشعر فورد في صيغة الفعل الماضي، والمضارع، والجملة الاسمية. ولكن ابن خفاجة في نعت القصيدة ركز على صفات الجمال الأنثوي، وعلى رأسها المرأة، واتخذ من هذه النعوت مدخلا للحديث عن ماهية القصيدة ودورها في توطيد دعائم المجتمع، وترسيخ أواصر الأخوة بينه وبين وجهاء عصره، والوصل بين ماضي الشعر وحاضره من ناحية، وتأكيد احتذاء الشاعر الأندلسي تقاليد الشعر في المشرق، وعلى الأخص بغداد والحجاز من ناحية أخرى. وقد غلبت نعوت الأنوثة سواء التي وردت في سياق قصيدة المدح، أو التي وردت في سياقات أخرى، على نعوت الذكورة التي نعتت الشعر ولكن الدلالة الأغلب على نعوت الشعر هي التحدث عن مكانة الشعر، وعن أهميته وفاعليته، وعن معاناة كتابته، وعما انتاب الشاعر من أرق وتوتر. وقل الحديث عن ماهية الشعر قلة واضحة، وازداد هذا الحديث توهجا عند ذكر فاعلية الشعر وأدواره، وقدرته على الاستمالة التي يحرص عليها ابن خفاجة.