انشغل العرب، وانشغل العالم كله بالتحول الكبير الذي يحدث في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتراجع إلى حد ما الاهتمام بالجرائم البشعة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، والتي فاقت كل تصور عقلي لحقارة الجنس البشري عندما يمارس الوحشية والسادية، وتجاوزت كل القوانين والأعراف التي وضعتها الإنسانية على مر العصور لحماية العزل في الحروب، فهي تحاصر المدنيين وتعزلهم عن العالم، وعن أسباب الحياة، وتمنع عنهم الماء والغذاء والدواء، ومن لم يمت بالتجويع والعطش تهدم عليه بيته، أو تقتله في خيمته، أو في المستشفى الذي ظنه ملاذا آمنا.
وقد ادعي رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في معرض دفاعه عن نفسه خلال جلسة محاكمته بتهمة الفساد والرشوة الأسبوع الماضي أنه انتصر على المقاومة ودمر 90% من قدراتها، والحقيقة أنه لم ينتصر إلا على المدنيين، الذين يقصفهم عشوائيا ويهدم بيوتهم ويدمر زراعاتهم، وهذه كلها جرائم حرب ضد الإنسانية وفقا للقانون الدولي، أما المقاومة فما زالت قادرة على أن تنصب الكمائن لجيش الاحتلال في كل مناطق غزة، وما زالت قادرة أيضا على أن تقاتل وتضرب وتوجع، وتطلق الصواريخ على مستوطنات غلاف غزة.
الجيش الإسرائيلي يقتل ولا يقاتل، يعتدي علي المدنيين العزل من الأطفال والنساء والعجائز، ويستهدف الصحفيين الذين ينقلون جرائمه إلى العالم، وقتل حتى الآن ما يفرب من 200 صحفي، لا يحملون سلاحا، ويرتدون سترة الصحافة المعروفة دوليا، ولها حصانة خاصة، لكن جيش الاحتلال لايلتزم بأية قواعد وأعراف دولية، لأنه واثق أنه فوق القانون، فيقتل لمجرد القتل وحصد الأرواح، وإضافة أرقام جديدة كل ثانية إلى أرقام الشهداء والمصابين، على أمل التخلص من الشعب الفلسطيني الصامد، الذي مازال أبناؤه يناضلون إلى الرمق الأخير من أجل حريتهم، وحرية وطنهم ومقدساتهم.
وتؤكد شواهد الحرب في غزة أن جرائم جبش الاحتلال ليس هدفها ضرب المقاومة، بل قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، عن طريق الاستهداف المستمر لبيوت عائلات وأشخاص يعرف الصهاينة أنهم مدنيون، وهو استهداف مقصود وممنهج لتنفيذ الإبادة الجماعية المطلوبة، حتى لو استدعى الأمر قتل الأسرى الإسرائيليين مع حراسهم، ما يعني أن الهدف مزيد من القتل والإبادة، وتلك حقيقة ثابتة ومعروفة منذ بداية الصراع في فلسطين، تنسف الرواية المتصهينة التي يروجها الإسرائيليون ويتبناها ـ للأسف ـ بعض العرب، الذين يدعون أن المقاومة هي التي زجت بالفلسطينيين في هذه المذبحة، ويحملونها المسئولية، وكأن التاريخ يبدأ عندهم يوم السابع من اكتوبر 2023، ويتجاوزون عن فهم ثمانين عاما من صراع الاحتلال والمقاومة، ارتكبت فيها العصابات الصهيونية كل صنوف الإجرام لإقامة دولتها على أنقاض وطن تم هدمه وتخريبه، وشعب جرى قتله وتشريده.
لكن الأخطر من جريمة القتل والإبادة اليوم هو جريمة اللعب بالعقول، وتغيير العقائد، لنزع شرعية المقاومة من قلوب وعقول المحيط العربي والإسلامي الذي هو بطبيعة الحال العمق الممتد المساند للنضال الفلسطينى، وحاضنته الآمنة، ومخزونه الاستراتيجي، ولإقناع هذا المحيط بأن القضية الفلسطينية لم تعد قضيته بعد أن صارت معقدة ومملة، ويكفي ما قدم لها عبر السنين، وليس من صالحه أن يظل يدفع ويضحي من أجلها إلى الأبد.
وقد جرى تنفيذ جريمة اللعب بالعقول وفق خطط محكمة، وعلى مراحل، عن طريق تسطيح المفاهيم، ونشر ثقافة التفاهة واليأس والتشاؤم وانعدام الثقة في كل شيء، حتى في الوعود الإلهية، والسخرية من الثوابت التي تربت عليها أجيال ظلت مؤمنة بأن الأمن القومي العربي كل لا يتجزأ، وتقديم مبررات واهية تستسيغها عقول من يبحثون عن مبررات لتخاذلهم وتقاعسهم.
إسرائيل تقتل الفلسطينيين منذ عقود مضت، وعندما تريد أن ترتكب جريمة ما تكون جاهزة بما يبرر جريمتها، والمبررات عند اليهود لا تنتهي أبدا، فعندهم مبررات لقتل الفلسطينيين، مقاومين ومدنيين، وعندهم مبررات للهجوم على التراث العربي والإسلامي والمناهج الدراسية والبرامج الإعلامية، ومبررات للهجوم على الأمم المتحدة وقتل موظفي الإغاثة الدولية ودمغهم بالإرهاب، وعندهم مبررات لابتزاز الدول العربية بدعوى تعويض أملاكهم التي تركوها، وقديما كانت عندهم مبررات لكراهية السيد المسيح ومحاربته، ومحاربة القرآن الكريم والنبي والصحابة منذ فجر الدعوة.
ومما يؤسف له أن يكون من بيننا سماعون لهم، يتلقفون هذه المبررات السخيفة ليريحوا بها ضمائرهم المنحرفة عن الحق، ويروجونها ببجاحة حتى تبدو أنها صادرة عن فهم منهم واقتناع، وهم لا يدرون ـ أو يدرون ـ أنهم بذلك يمكنون للمشروع الصهيوني، المشمول برعاية وحماية أمريكية أوروبية، والذي يحمل في طياته مخاطر مؤكدة على أوطانهم، فإسرائيل تتربص بالجميع لتأكلهم فرادى، وتقيم مملكتها التوراتية على أنقاضهم.
وما حدث في سوريا خلال الأيام القليلة الماضية فيه العبرة والعظة، فبينما تتسارع الجهود في مصر وقطر لإنجاز اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية في غزة، تندفع إسرائيل في اتجاه جديد، وتفنح جبهة إضافية للحرب في سوريا، حتى لا تترك للسوريين فرصة لالتقاط أنفاسهم وتضميد جراحهم، وتبادر باحتلال عدة مناطق حدودية من أراضيهم وإعلانها منطقة عازلة تضمها إلى مرتفعات الجولان المحتلة منذ 1967، وتبدأ بذلك صفحة من العداء المبكر مع النظام الجديد في دمشق أمام أعين العالم بأسره، ثم حين يفكر هذا النظام في تحرير أرضه، ويكون مستعدا للحرب، يتهم بالإرهاب واللجوء للعنف، ويتم تصويره بأنه المعتدي على إسرائيل المسالمة، بالضبط كما حدث ويحدث مع إخواننا الفلسطينيين.