في زمنٍ فقدَ بوصلته، وتاهت ملامحه بين أمواج العولمة الهوجاء، صار الممكن مستحيلاً، والمستحيل واقعًا يُكرَّسُ تحت شعاراتٍ زائفةٍ من الحرية والانفتاح. لم تعد الأشياء تُسمَّى بأسمائها، بل صار لكل شيء قناعٌ يلبسه، ومسخٌ يتخفَّى وراءه.
تحوَّل الرجلُ إلى امرأةٍ، وتحولت المرأةُ إلى رجلٍ، ليس في الجسدِ وحسب، بل في المعنى، في السلوك، في الدور، وفي الجوهر. لم يعد الأمر مجرَّد نزوةٍ فرديةٍ عابرة، بل تيارٌ جارفٌ يغزو العقول قبل الأجساد، ويهدم أركان الفطرة باسم التقدُّم، ويعيد تشكيل الوجود وفق نزواتِ العابثين.
وعلى الضفة الأخرى، ترى رجلًا يحمل شعلةَ الحق، يتكلمُ في الدين، في القيم، في ثوابتِ الحياة، فتنهال عليه سياطُ التهم الجاهزة: “متخلِّف، رجعي، لا يواكب العصر!”، بينما يُرفع السفيه فوق الأعناق، يُصفِّق له القوم، يحتفون بسفاهته، ويجعلون منها حكمةً عصرية. صار الضجيجُ زينةَ هذا الزمن، وصار الغوغاءُ أصحابَ القرار، وتحولت الأصواتُ العاقلةُ إلى همساتٍ ضائعةٍ في صخبِ الجموع.
لكن، هل هو زمنٌ ميّتٌ حقًا؟
كلا، فما من حقٍّ إلا وله دورة، وما من باطلٍ إلا وله أجلٌ محدود. هذه الأزمنة المتقلِّبةُ كأمواج البحر، تعلو فيها المتناقضات، تعصفُ بكل ثابت، تهزُّ الأعمدة الراسخة، لكنها لا تلبث أن تنكسر عند أول صخرةِ وعيٍ صلبة.
العبرةُ ليست بما يعصفُ بالمجتمعات من رياحٍ مؤقتة، بل بقدرةِ الجذور على الثبات في وجه العاصفة. وما تزال هناك قلوبٌ تنبضُ بالفطرة، وأرواحٌ لم تلوثها الحداثةُ الزائفة، وألسنةٌ تنطقُ بالحق وإن تكسَّرت فوقها أمواجُ السخرية.
فيا أيها العابرُ في دروبِ هذا الزمن، لا تنظر إليه بقلق، بل انظر إليه كاختبارٍ للحقيقة. الحقُّ كالشمس، قد تحجبه غيومٌ عابرة، لكنه لا يغيب.