( نظرية استنزاف الأنا واحتراق النجاح في الأهلي وخارجه)
لطالما كان النادي الأهلي المصري، وهو كبير كرة القدم في أفريقيا، منجماً للمواهب الكروية والإدارية المتميزة. سطرت أجيال من اللاعبين والمدربين تاريخاً حافلاً بالإنجازات والألقاب، محفورة بأحرف من ذهب في سجلات كرة القدم. ولكن، في السنوات الأخيرة، لاحظ متابعو كرة القدم المصرية ظاهرة تستدعي التفكير والتأمل: تدهور مستوى أداء بعض المدربين الذين حققوا في بداية مسيرتهم مع الفريق نجاحات باهرة، ليتحولوا تدريجياً إلى نقطة ضعف فنية، بالرغم من استمرار حصولهم على كل الميزات والدعم الذي قد لا يتوفر لغيرهم. هذه الظاهرة قد تجد تفسيراً جزئياً في إطار ما يمكن تسميته بـ ” *نظرية احتراق النجاح* “. هذه النظرية، وإن لم تكن منهجية بالكامل في علم الإدارة الرياضية، إلا أنها تستند إلى ملاحظات وتجارب متكررة في مختلف المجالات، تشير إلى أن النجاح المبكر والكبير قد يحمل في طياته بذور التراجع.
لفهم هذه الديناميكية بعمق أكبر، يمكننا الاستعانة بنظرية سيكولوجية مهمة جدًا، وهي نظرية استنزاف الأنا (Ego Depletion Theory). تفترض هذه النظرية أن قوة الإرادة والانضباط الذاتي هما موردان معرفيان محدودان. النجاح في أي مجال، بما فيه تدريب كرة القدم على أعلى مستوى، يتطلب جهداً عقلياً كبيراً، واتخاذ قرارات صعبة، والتحكم في المشاعر تحت الضغط، والمثابرة في مواجهة التحديات. كل هذه الأنشطة تستهلك مخزون الأنا لدى الفرد. وعندما ينتهي هذا المورد بشكل متكرر ومكثف، تقل قدرة الفرد على ممارسة ضبط الذات في مهام أخرى، وهذا يؤدي إلى حالة من الإرهاق الذهني والعاطفي.
في سياق تدريب كرة القدم، يمكن تصور أن المدرب الذي يحقق نجاحات بسرعة مع فريق كبير مثل الأهلي، كما فعل بيتسو موسيماني في فترته الأولى عندما حقق لقب دوري أبطال أفريقيا مرتين متتاليتين، يكون مدفوعًا بحماس كبير، وأفكار جديدة ومبتكرة، وحماس الفريق معه، بالإضافة إلى عنصر المفاجأة للمنافسين. هذه العوامل تساعده على تحقيق نتائج إيجابية وتحقيق انتصارات كثيرة. ولكن، الضغوط الهائلة المصاحبة لتدريب فريق بحجم الأهلي، وتوقعات الجمهور والإدارة المستمرة، تمثل عبئاً كبيراً على الموارد المعرفية للمدرب. ومع مرور الوقت وتحقيق سلسلة من النجاحات، قد يبدأ مخزون الأنا لدى المدرب في النضوب، وهذا قد يظهر في تراجع قدرته على التجديد والابتكار، أي أن المدرب يصبح أقل قدرة على إيجاد أفكار تكتيكية جديدة أو التأقلم مع تطور طرق لعب المنافسين، ويبقى معتمداً بشكل كبير على الخطط التي نجحت معه في الماضي. وهذا قد يكون نتيجة استهلاك الطاقة الذهنية اللازمة للتفكير الإبداعي وحل المشاكل المعقدة. بالإضافة إلى ذلك، قد يعاني المدرب من صعوبة في الحفاظ على حماسه وتركيزه، أي يشعر بإرهاق ذهني وعاطفي، وهذا يؤثر على قدرته في الحفاظ على مستوى عالٍ من الحماس والتركيز المطلوبين لاتخاذ القرارات الحاسمة وإدارة الفريق بكفاءة. وأيضًا، عندما تزيد التوقعات والضغوط بعد النجاح، كما ربما شعر ريكاردو سواريز بعد توليه المسؤولية وسط توقعات عالية، قد يصبح المدرب أقل قدرة على التحكم في مشاعره والتعامل مع الانتقادات والضغوط النفسية، وهذا يزيد من حالة الاستنزاف.
من الأسباب الأساسية التي قد تساهم في هذه الظاهرة أن هؤلاء المدربين قد حققوا بالفعل مستوى عالٍ من الإنجاز في مسيرتهم. وعندما يحققون المزيد من النجاحات مع فريق بحجم الأهلي، فإنهم قد يصلون إلى مرحلة “احتراق النجاح” حيث يقل حافزهم، وتضعف قدرتهم على الاستمرار في تحقيق المزيد، بالرغم من توفر الميزات والدعم الكبير الذي قد لا يحظى به غيرهم.
الأحداث الأخيرة المتعلقة برحيل المدرب مارسيل كولر عن تدريب النادي الأهلي، بالرغم من تحقيقه لسلسلة من الألقاب والإنجازات خلال فترة تدريبه، قد تثير تساؤلات حول ما إذا كانت نظرية “احتراق النجاح” يمكن أن تكون قد لعبت دوراً ما في هذا القرار أو في الضغوط التي واجهها المدرب. فبعد فترة من التألق المستمر وتحقيق البطولات، قد يجد المدرب نفسه تحت ضغط متزايد للحفاظ على نفس المستوى، وهو ما يتطلب استهلاكاً مستمراً لموارده الذهنية والنفسية. وعلى الرغم من أن أسباب رحيل كولر قد تكون متعددة ومتنوعة وتشمل عوامل شخصية أو رؤى مستقبلية مختلفة، إلا أن الضغوط المصاحبة لقيادة فريق بحجم الأهلي والتطلعات العالية للجماهير والإدارة يمكن أن تساهم في نهاية المطاف في إرهاق المدرب.
في المقابل، قد لا يحدث “احتراق النجاح” للأفراد أو المدربين الذين لم يحققوا نجاحات كبيرة قبل تولي مسؤولية فريق كبير. وفي هذه الحالة، يصبح من الضروري عند اختيارهم التركيز على توفر مهارات فكرية مميزة وقدرة على الابتكار والتطوير، وليس بالضرورة الاعتماد فقط على تاريخ مليء بالنجاحات مع فرق أخرى. فالرغبة في إثبات الذات وتحقيق أولى النجاحات الكبيرة قد تكون دافعًا قويًا للتغلب على ضغوط البدايات وتقديم أداء متميز.
وهذا الأمر لا يقتصر على مجال كرة القدم. يمكن ملاحظة أمور مشابهة في مجالات أخرى. في عالم الفن، مخرج مثل كريستوفر نولان، بعد تحقيق نجاحات كبيرة بأفلام مثل “بداية” و”بين النجوم”، قد يجد صعوبة في الحفاظ على نفس المستوى العالي من الابتكار والإبهار في كل فيلم جديد يقوم بإخراجه، وهذا يكون بسبب الضغوط والتوقعات العالية. وفي مجال التكنولوجيا، رائد أعمال مثل سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI بعد تحقيق نجاحات هائلة مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT، قد يواجه تحديات في الحفاظ على نفس الوتيرة من الابتكار المستمر والتعامل مع الضغوط المتزايدة والتنظيمات الجديدة في هذا المجال سريع التطور. وحتى في مجال الرياضة الفردية، لاعب تنس مثل نوفاك ديوكوفيتش، بعد سنوات من الهيمنة وتحقيق أرقام قياسية، قد يواجه صعوبات في الحفاظ على نفس المستوى من التركيز البدني والذهني في كل بطولة مع ظهور جيل جديد من المنافسين وتزايد الضغوط لتحطيم المزيد من الأرقام.
ولتجنب الوقوع في فخ “احتراق النجاح” هذا، يحتاج الأفراد في كل المجالات، وخاصة في البيئات التي فيها ضغط كبير، إلى تبني استراتيجيات للحفاظ على طاقتهم الذهنية والنفسية وتجديدها باستمرار. هذه الاستراتيجيات قد تشمل التعلم والتطوير المستمر، وإدارة الضغوط بكفاءة، وتفويض المهام، وأخذ فترات راحة. وقد رأينا كيف أن مدربين مثل مانويل جوزيه في فترات طويلة من مسيرته مع الأهلي استطاع الحفاظ على مستويات أداء عالية ربما لأنه كان يتبع بعض هذه الاستراتيجيات.
وفي النهاية، يقدم دمج نظرية استنزاف الأنا مع مفهوم “احتراق النجاح” إطاراً نظرياً بسيطاً ولكنه مفيد لفهم التحديات التي قد يواجهها الأفراد في مختلف المجالات بعد تحقيق النجاح. الضغوط المستمرة والمتطلبات المعرفية العالية في القمة قد تستنزف الموارد الذهنية والنفسية، وهذا قد يؤدي إلى تراجع الأداء مع الوقت أو حتى الرحيل عن المنصب. وعند اختيار القيادات، يصبح من المهم الموازنة بين الخبرات السابقة والقدرة على التجديد الفكري والرغبة في تحقيق المزيد، لتجنب الوقوع في فخ “احتراق النجاح” وضمان استمرار النجاح والابتكار على المدى الطويل.
دكتوراه في تحليل الخطاب النقدي السياسي، باحث في الدراسات الثقافية