التعليم والإعلام أهم أعمدة بناء الأمة، فلا تتقدم أمة إلا بالتعليم، ويجيء دور الإعلام كدور مكمل أو بديل، ففى حالة من يتعلم فى الصغر يأتى الإعلام للتوعية وتوسيع الأفق، أو يأتى كتعويض فى حالة نقص التعليم.
كما أنه يمنحنا معرفة خلاصة علم العلماء وأدب الأدباء وثقافة وفن المستنيرين.. أكتب فى هذا الموضوع بعد أن شاهدت حلقة على قناة النهار، للإعلامية المتميزة دعاء فاروق، وهى المذيعة الواعية المثقفة التى تعلم أهمية دورها وخطورته.. بدأت حلقتها بالحديث عن حيرتها فى اختيار موضوع الحلقة، وبحثها الدائم للعثور على موضوع يفيد المشاهدين، وكيف وجدت ضالتها فيما رواه الأستاذ الفاضل فرج حمودة – خريج الكلية الفنية العسكرية – عن ناظرة مدرسته التى نشر صورتها على الفيسبوك وعلق عليها قائلا: «قصة بكل الفخر أحكيها دون خجل قد يتعلم منها أولاد الجيل الجديد ومعلموهم.. الصورة هى لأستاذتى زينب حمودة، ناظرة مدرستى أسوان الثانوية التجريبية المشتركة، والتى لها فى حياتى وقفات غيرت بها مسار حياتي.. أدين بالفضل لله إن كانت هذه الأم ناظرة مدرستي.. وسأحكى لأصدقائى باختصار موقف واحد من أياديها البيضاء وبدون خجل بل وبكل فخر.. فى أواخر الستينيات..وكان قد تبقى على امتحان الثانوية العامة شهران.. بدأت حالة يأس شديد تنتابنى من أن أحقق المجموع الذى يدخلنى الكلية الفنية العسكرية برغم تفوقى النسبى فى المدرسة.. حيث كنا أسرة من ٨ أفراد نعيش فى حجرة واحدة من الطوب اللبن فى جنوب جنوب جنوب مدينة أسوان بدون ماء أو كهرباء.. ولا أستطيع التركيز طوال النهار لوجود خمسة إخوة وأخوات أطفال معى فى نفس الحجرة فأنتظر نومهم لأذاكر ليلا فقط على لمبة جاز نمرة ١٠.. وفى حصة الكيمياء اكتشف أستاذنا/صلاح محروس، رحمه الله، سرحانى الشديد أثناء الحصة.. وبعد الحصة اصطحبنى إلى المكتبة وحاول بشتى الطرق أن يعرف منى السبب ولم يفلح.. فأبلغ الأستاذة الناظرة أمنا المرحومة بإذن الله/ زينب حمودة..فسارعت بإرسال الأستاذة/يمن يوسف سمباج رحمها الله الإخصائية الاجتماعية إلى منزلى أثناء الحصص وعادت إليها بتقرير.. وحين عدت للمنزل أخبرتنى أمى بحضورها فبكيت، ولم أقرأ كلمة حتى اليوم التالي، ذهبت إلى المدرسة أحس الكثير من الخزى وكأنه عار لحق بي.. وفى الحصة الثالثة جاءت دادة/عواضة، وطرقت الباب وهى تنظر إلى واستأذنت أستاذتي/مهدية حامد رحمها الله أن الست الناظرة عايزه فرج الآن فى مكتبها.. فتمنيت أن تغوص بى الأرض.. لا أعرف كيف وجدت نفسى فى مكتبها، وفوجئت بالفريق/مدكور أبوالعز، رحمه الله محافظ أسوان يجلس، وقام ليسلم على ويقول أهلا بالرجل الرائع فرج.. أبلة/زينب هوستنى من امبارح علشانك يا راجل.. خد ورقة أهه أكتب طلب شقة.. وأملا علىّ الصيغة، وأخذه من يدي، وقال لى انزل اركب عربيتى تحت وأنا جاى لك ولم أنطق بكلمة.. وأنا أرى بصعوبة لملء عينى بالدموع التى لا تريد أن تنهمر أمام أحد.. واصطحبنى الرجل إلى شقة مكتب إسكان حى السيل الجديد.. وأخرج مكاتب الموظفين إلى الشارع وكتبوا لى على أحدها عقد الشقة.. حد يقول لى فيه مديرة مدرسة تعمل كده النهاردة؟؟؟ تجيب المحافظ مكتبها من أجل طالب عندها..؟ وبكل كرامة وعزة نفس..!!!!! ولا أنسى جملتها الشهيرة (عايزين نطلع من عندنا عبدالناصر واتنين وتلاتة، أنتم مستقبل البلد دي)، وتفوقت فى الفنية العسكرية وتخرجت ضابط مهندس، وشاركت فى أكتوبر حرب الكرامة، التى ربتنا عليها أستاذتي، غفر الله لها ورحمها وأسكنها مع النبيين والشهداء والصالحين وجزاها عنى وأمثالى، وهم كثير بالتأكيد خير جزاء لمن راعى ضميره وربه فى عمله».. وأنهت دعاء فقرة برنامجها بأننا لا نحتاج أن نقلد كوكب اليابان الشقيق، والذى ننبهر بأدبهم وأخلاقهم، ولا نحتاج أن نكون مثل كندا أو غيرها.. ولكن نريد أن نقتضى بأهلنا الأصلة الذين نفتخر بسماع قصصهم المحترمة.. ولديها كل الحق فمصر هى من علمت العالم، والكثير من الدول وعلى رأسها اليابان كانت من قبل تعتبر مصر نموذجا يقتضوا به.. ففى 1862 فى عهد الإمبراطور ميجى أرسلت اليابان إلى مصر «بعثة الساموراى»، الذين كانوا أكثر الطبقات تعليمًا وتثقيفًا، وأبدت البعثة انبهارها بالسكة الحديدية.
والقطارات التى لم تكن عرفتها اليابان بعد!! كما أبدوا إعجابهم بنظافة الحمامات العامة، وإن كانوا قد أبدوا دهشتهم من أن حمامات القاهرة أغلى من حمامات طوكيو، وهو ما اعتبروه مؤشرًا على الرخاء الاقتصادى.. كذلك أبدوا إعجابهم بالتلغراف، الذى لم يكونوا قد عرفوه بعد.. فدرسوا التجربة المصرية واستفادوا منها.. وتوافد المثقفون اليابانيون على مصر لإجراء أبحاث عن النظام القضائى والقانونى وغيره.. هكذا كنا!!.. وهكذا كان احترام العلم والمعلم، تستطيع مديرة مدرسة طلب المحافظ فى مكتبها من أجل طالب!!.. وهكذا كانت المدارس، ليست للتعليم فقط وإنما رعاية وتربية وحرص على أدق التفاصيل لكل طالب..فلولا هذا الاهتمام لما استفادت مصر من قدرات هذا الرجل الفاضل!!.. ولكن كم فقدنا من مواهب وقدرات لمصريين لم يجدوا من ينتشلهم من قسوة الظروف ويمد لهم يد العون؟!!.. نريد صحوة للضمائر فى ظل انهيار منظومة القيم، وفى ظل كثافة سكانية تلتهم الموارد، وتحتاج إلى حسن إدارتها وتوجيهها.. حتى لا نظل كما يقول الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى: «ودائما نقول كنا.. نريد أن نكون!!».