“إنك أيها الراحل في لحد الخلود، سيفيض عليك النيل في مضجعك الأخير أثرًا من بركاته”. وجدت هذه العبارة مكتوبة على ورقة بردي كبطاقة عند مقبرة أحد موتى قدماء المصريين مما يؤكد أنهم كانوا يقدسون النيل لكونه السبب الفعال في صيانة أرواحهم من مهالك القحط والجدب، وانتشار الفاقة واستحكام الضيق.
وجاء في كتاب (النيل في عهد الفراعنة والعرب ) لمؤلفه أنطوان زكري:” ذُكر في كتاب الموتى: أن النيل مولود من رع أي الشمس التي هي أكبر الآلهة عند المصريين القدماء ، وكانوا يقدمون للنيل بعض اعتبارات كالعبادة ويسمونه “حعبي ” أي الإله المقدس”. وأضاف زكري في كتابه أن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن :” النيل فيض من البركات الإلهية، يتنزل من السموات العلا إلى عالم الأرض، فيكون منها الرغد والسخاء وصلاحية الأرض لكل نبات يحتاجه الإنسان في أدواره المعاشية”.
وتؤكد الوثائق أن تلويث النيل واو تعويق جريانه يعد ذنبا يمنع رحمات الآلهة وسجلت على حوائط بعض المعابد الاعترافات الانكارية للمصري القديم تقول : “”أنا لم ألوث ماء النهر…لم أمنع الفيضان في موسمه…لم أقم سدا للماء الجاري…أعطيت الخبز للجوعى وأعطيت الماء للعطشى”.
ويجمع المؤرخون أن النيل هو الذي الهم المصريين القدماء بالتقويم السنوي وأطلقوا عليه اسم ” تقويم النيل “. ويقول العالم الفرنسي نيقولا غريمال في دراسة بعنوان “تاريخ مصر القديم”: “كانت نقطة الانطلاق لتحديد بداية العام الجديد هي قياس ارتفاع منسوب مياه فيضان النيل ويتفق تماما مع ظهور نجم الشعرى اليمانية، وأحصى الفلكيون المصريون عدد الأيام بين كل ظهور للنجم فوجدوها 365 يوما، وقسموها إلى 12 شهرا”.
واضاف نيقولا أن المصريين القدماء قسموا السنة إلى ثلاثة فصول تحددت بناء على أحوال النيل: “آخت” وهو فصل الفيضان وبذر البذور، و”برت” وهو فصل النمو، ويوازي فصل الشتاء، و”شمو” فصل الحصاد.
وانطلاقا من قدسية النيل وأهميته في حياة المصريين حرصوا على تتبعه جنوبا لاكتشاف منابعه والعمل على تأمينها سواء من خلال السيطرة عليها أو بناء صلات قوية من المحيطين بتلك المنابع. وتشير الوثائق إلى قيام المصريون القدماء برحلات كشفية وحملات متوالية لكشف القارة الأفريقية منذ عهد الاسرات القديمة، ولكنها تزايدت ونشطت كشوف منابع النيل في عصور الأسرات الفرعونية الأخيرة عام 2500 قبل الميلاد. ومن أشهر رحلاتهم والقائد العسكرى حرخوف فى عصر الأسرة السادسة فى ظل حكم مرن رع. والرحلة التى نظمت فى عصر الملكة حتشبسوت، وقد سجلت تفاصيل تلك الرحلة على جدران معبد حتشبسوت بالأقصر . أما أول محاولة بشرية معروفة في التاريخ للالتفاف حول القارة الأفريقية فقد ارسلها الملك نخاو الثانى فى أوائل القرن السادس قبل الميلاد. وسارت القافلة بمحاذاة شاطئ القارة الأفريقية حتى أقصى جنوبها، ثم صعدت السفن شمالا بمحاذاة الشاطئ الغربى للقارة لتعود إلى الشواطئ المصرية على البحر المتوسط ومنها إلى النيل.
وفي استمرت الحملات المصرية لاستكشاف وحماية منابع النيل في العصر الحديث. وذكر رفاعة الطهطاوي في كتابه (مناهج الألباب المصرية في مباهجِ الآداب العصرية) ان محمد على أَرسل في ظرفِ أربعِ سنوات ثلاثَ حملات متوالية، كانت الحملة الأولى في عام 1839 . وأكمل تلك الحملات حفيده الخديوي اسماعيل وكانت اخر حملاته عام 1876 بقيادة البكباشي احمد عرابي .
وتحدث مؤرخون كثيرون في أصل منبع النيل وقد جمعها الشيخ العالم أحمد بن محمد بن عبد السلام المنوفي في كتابه (الفيض الجديد في أخبار النيل السعيد)، الذي اعتبره أنطوان زكري من أكبر الثقات في المباحث العلمية في نهاية القرن التاسع الهجري. واتفق أغلب المؤرخين أن منابع النيل تقع وراء جبال القَمْر بالحبشة . ونقل المنوفي قول ابن القيِّم في كتاب الهدى: “النيل أحد أركان الجنة، أصله من وراء جبال القَمْر في أقصى بلاد الحبشة من أمطار تجتمع هناك وسيول يجر بعضها بعضًا، فيسوقه الله تعالى إلى الأرض الجُرْز التي لا نبات بها، فيخرج به زرعًا تأكل منه الأنعام والأنام”.
تلك كانت أهمية النيل في حياة الأجداد وجهودهم المستمرة للحفاظ على جريانه، فماذا فعلنا به نحن الاحفاد ؟!. الواقع يشهد بارتكابنا جرائم في حقه ، فقد قمنا بتلويث مياهه بكل اشكال التلوث فحولناه مصرفا لمياه المجاري ومخلفات المصانع والمزارع ومقلبا للزبالة والحيوانات النافقة . واعتدينا على شواطئه بالبناء العشوائي عليها . وأصبح من الضروري ان نتصالح مع النيل لكي نحافظ عليه كشريان رئيسي للحياة .