ان تكون الوسائل مؤثرة في ظل بيئة ثقافية مضادة وطاردة لروحية السلم والمشاركة وقبول الآخر من حيث الممارسات الاجتماعية وادوات الضبط الاجتماعي التي عادة ما تُنتج خطاباً يشوبه التحريض وروح كراهية متغلغلة في اساليب التربية والتعليم
لم تعد تقتصر وظيفة الإعلام على الوظائف المعروفة التقليدية منها نقل المعلومات والأخبار وتشكيل الاتجاهات والرأي العام، وتثقيف وتوعية الجماهير والترفيه والدعاية بل تعدت تلك الوظائف لتشمل وظائف أخرى فرضتها طبيعة المرحلة التي نعيشها من سرعة تدفق المعلومات ونقلها، والتطور التكنولوجي، حيث ساهمت وسائل الإعلام في بناء ثقافة التغيير المجتمعي، عدا عن وظيفتها كسلطة رابعة في الرقابة على أداء الحكومات وتحقيق السلم الأهلي وترسيخ الهوية الوطنية والانتماء.
ومع التطور السريع في هذه المنظومة، خاصة لوسائل الإعلام التفاعلية التي ساهمت في صناعة التغيير في العديد من الدول العربية وإنجاح الثورات.
المتتبع والمراقب لأداء وسائل الإعلام يرى بأن الإعلام لم يتمكن من لعب الدور المطلوب منه على مستوى تعزيز ثقافة الحوار والتسامح، منذ سنوات مضت وساد ما يعرف – الردح الإعلامي-الفعل وردة الفعل، خاصة بعد الانقسام وما تبعه من انقسام إعلامي طال كل وسائل الإعلام بلا استثناء،
وأصبحنا لا نرى في قاموس إعلامنا سوى المناكفات السياسية وتبادل الاتهامات والقذف والذم والتخوين وغيره وحاد الإعلام بشكل كبير عن دوره المفروض أن يلعبه في تعزيز ثقافة الحوار والتسامح وتجاوز الخلافات السياسية والمصالح الفئوية الضيقة.
حالة الفوضى الإعلامية التي تلت الفوضى السياسية وكون معظم وسائل الإعلام تنضوي تحت أطر وتنظيمات سياسية ساهمت في تعزيز لغة اللاتسامح وانقسم الإعلام على ذاته، وأصبح أول المتهمين في إشاعة أجواء اللاسلم المجتمعي، بعدما زج بنفسه في دائرة المناكفات والخلافات السياسية، لدرجة أننا أصبحنا لا نرى إعلاماً وطنيا وإنسانياً خالصاً وأن معظم الوسائل وليس جمعيها أصبحت أبواق للأحزاب السياسية.
ولكن في ذات الوقت لا نستطيع أن نغفل الدور الإعلامي الكبير الذي لعبته وسائل الإعلام على مختلف مشاربها وتوجهاتها السياسية من حسم المعركة وتحقيق النصر حيث أديرت هذه المعركة الإعلامية بطريقة سليمة وموضوعية ما ساهمت في نقل الحقيقة بدون مبالغة أو مواربة.
تساؤل آخر كيف يمكن لإعلام وطني ومسؤول أن يساهم في تعزيز ثقافة التسامح والسلم الأهلي في ظل حدوث انسلاخ كبير في هوية المجتمع واغتراب حقيقي يشعر به الكثير جراء حالة الإحباط التي استشرت بشكل واضح جراء انعدام الأفق السياسي وعدم حدوث أية تطورات وتحسينات ايجابية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يزداد سوءا يوماً بعد يوم.
الخطاب الإعلامي المشحون بالتحديات والاتهامات، يهدد الاستقرار ويشيع الفوضى في المجتمع ويهدد السلم الأهلي. هذا الخطاب الإعلامي مصدره أولا وسائل الإعلام وثانيًا قوى المجتمع الفاعلة، من سياسية ودينية واجتماعية. غير أن الإعلاميين يتحملون المسؤولية الأولى إذ تقع عليهم تبعات اختيار الأخبار وتحريرها وتقديمها بقالب يتوافق والدور الإعلامي الأصيل. إذ لا يجوز، في أي حال، أن تتحول وسائل الإعلام إلى متاريس حربية في أيام السلم، لأنها قد تؤدي بالمجتمع إلى حال من الاضطراب والفوضى المدمرة.
إن الفضائيات، تحولت إلى حصون للتقاذف والتراشق الإعلامي المبتذل، ولا يمكن التذرع بحرية الرأي والقول بالديمقراطية من اجل بث أي شيء من هذا النوع. وان المتتبع لوسائل الإعلام في الدول الديمقراطية الراقية، يرى أن طريقة تغطية الخبر ومعالجته تختلف كليا عما هي عليه في حالتنا الفلسطينية، أن الحرية مسؤولية، والديمقراطية وعي وممارسة واحترام متبادل لا هي فوضى ولا قدح وذم ونيل من كرامات الناس.
يتحمل الخطاب السياسي الذي تنتجه غالبية الطبقة السياسية، مسؤولية كبيرة في خلق أجواء التوتر والاستنفار لدى الجمهور أو العكس فالإعلام هو نتاج للحالة الموجودة في المجتمع وعاكس لما يحدث ففي حالة السلم
نرى الإعلام يجسد هذه الحالة وفي حالة اللاسلم نرى عكس الصورة. في الوقت الذي يفترض من هؤلاء السياسيين، اعتماد خطاب يشيع أجواء الاستقرار والهدوء والسلم الأهلي سيما وأن الكلمات يمكن أن تتحول إلى أدوات لحرب حقيقية تطيح بكل مقومات الوطن.
من جانب آخر كيف يمكن لإعلام مقيد برؤية الأحزاب السياسية ويفتقد في العديد من الأحوال لمساحات حرة للتعبير عن قضاياه أن يساهم في تعزيز اللحمة الوطنية والمنظومة القيمية المجتمعية، في ظل إغلاق العديد من المؤسسات الإعلامية واستمرار منع الصحف اليومية من الوصول، عدا عن تقييد حرية الوصول لمصادر المعلومات.
أن على القائمين على وسائل الإعلام وعلى الصحافيين كافة، كما على القيادات السياسية والدينية والاجتماعية، أن يدركوا أن الخطاب على تعدده يلعب دورا رئيسياً في المجتمعات وان اللجوء إلى خطاب متطرّف أو تحريضي يحمل مخاطر كبيرة على المجتمع. وقد يكون من الضرورة القصوى، اليوم والمطلوب في ظل هذه اللوحة والمشهد الضبابي.
وجود رقابة ذاتية مسؤولة علها تحصننا ضد وباء الحقد المستشري وتسهم في إعادة اللحمة بين المواطنين فيسلم الوطن ويستعيد مسيرته صوب المستقبل.
أن تحاول وسائل الإعلام أن تنقذ ما يمكن إنقاذه وتساهم ولو في الحد الأدنى في رأب الصدع وتعزيز قيم التسامح والسلم الأهلي.
هل بإمكان وسائل الإعلام أن تقوم بذلك نعم بالتأكيد بإمكانها إذا امتلكت الإرادة الذاتية لتعزيز قيم السلم الأهلي من خلال وجود قاموس إعلامي يحتوي على مصطلحات تدعم السلم الأهلي والمجتمعي، وإزالة كل المصطلحات التي زجتها وسائل الإعلام في قاموسها والتي تحمل عوامل الفرقة والتهديد ولغة التخوين …. الخ.
السعي لإعادة الهيبة للسلطة الرابعة من خلال تبنى استراتيجية وطنية إعلامية موحدة تنطلق من المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وتشكيل مرصد إعلامي يتابع ويرصد المواد الإعلامية المقدمة عبر جميع الوسائل ومحاسبة كل من يمس بمفهوم السلم الأهلي والمجتمعي. النأي بالإعلام عن المناكفات السياسية الدائرة وعلى وسائل الإعلام خاصة الجماهيري منها أن تلعب دوراً في تعزيز ثقافة التسامح وتقبل ثقافة الاختلاف عبر المنابر المختلفة وخاصة المساجد كونها الأقرب للناس والأكثر تأثيراً فيهم وتبني خطاب وحدوي أصيل ينطلق من مبادئ الأديان السماوية الثلاث والتي حضت على التسامح والمحبة والسلام.
-توظيف وسائل الإعلام التفاعلي في تعزيز ثقافة التسامح وتقبل الآخر من خلال تشكيل مجموعات عبر هذه الأدوات الكثيرة لإشاعة ونشر هذه الثقافة.
-البدء بحوار وطني إعلامي موازي للحوارات السياسية كي نتمكن من إحداث التغيير المطلوب وترسيخ السلم المجتمعي.
-يجب أن تضم لجنة المصالحة المجتمعية مجموعة من الإعلاميين والإعلاميات المشهود لهم بالخبرة والكفاءة والقبول المجتمعي لتدعيم وتعزيز فرص نجاح المصالحة.
– لا بد من اتخاذ خطوات عملية لإطلاق الحريات وخاصة حرية الرأي والتعبير وفتح جميع المؤسسات الإعلامية والصحفية التي أغلقت خلال فترة الانقسام والسماح بدخول الصحف اليومية الثلاث حتى تتمكن الطواقم الصحفية والإعلامية من القيام بدورها المنوط بها في تعزيز اللحمة الوطنية والمجتمعية والتعاطي مع القضايا بأريحية وعودة الروح للعمل الصحفي والإعلامي.
وجود رقابة ذاتية مسؤولة من قبل الصحفي أو الإعلامي تعد بمثابة ميثاق شرف يعتمد عليه ويكون دليلا ومرشدا له في عمله.
وفي النتاجات الثقافية من آداب وفنون ومناهج تعليمية، فالرسائل الاتصالية من هذا النوع ليست بعيدة عن حامل الرسالة الاعلامية الذي لا يمكن له في أي حال من الاحوال ان يكون بمنأى عن البيئة التي نشأ فيها بمصادرها ومنظوماتها التربوية والتعليمية والسياسية والاجتماعية.
ومن هنا فأننا نرى ان مسؤولية وسائل الاعلام في تعزيز ثقافة السلم الاهلي لا تقع عليها وحدها وانما بتضافر جهود مؤسسات اخرى منها المؤسسات التعليمية ومنظمات المجتمع المدني والاسرة، أي مشاركة جماعية مثمرة بين مؤسسات المجتمع كلها ومنها وسائل الاعلام.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان