“تابعت باهتمام جلسة مجلس أمناء الحوار الوطني، وإنني إذ أثمن العمل المستمر من أبناء مصر المخلصين، الذين يسعون نحو الحوار والنقاش من أجل مصرنا العزيزة، فإنني أؤكد على الأخذ بالاعتبار ما تم مناقشته فيما يتعلق بالتعديل التشريعي الذي يسمح بالإشراف الكامل من الهيئات القضائية على العملية الانتخابية، ووجهت الحكومة والأجهزة المعنية بالدولة لدراسة هذا المقترح وآلياته التنفيذية”.
نصًّا وبالحرف الواحد كانت هذه كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسي، استجابة منه لما اجتمع عليه الحوار الوطني، من أهمية الإشراف القضائي الكامل على الاستحقاقات الانتخابية القادمة.
ودعوني أؤكد هنا أن توقيت الاستجابة الرئاسية، وبعد أقل من ٢٤ ساعة فقط، لا يقل أهمية – في تقديري – عن محتوى الاستجابة نفسها، فهو يعبر بوضوح، أولًا عن القناعة التامة والإيمان الراسخ للرئيس السيسي بقضية العدالة الانتخابية، ووجوب توفير كل ضماناتها، ما انعكس على سرعة تفاعله مع هذا المقترح بالإيجاب.. وثانيًا استيقن الجميع أنهم أمام متابعة رئاسية أولًا بأول، لما سيدور في هذا الحوار الوطني، الذي يُحسب للرئيس أنه هو شخصيًا صاحب المبادرة به، والدعوة إليه.
نقطة أخرى أراها لافتة وبقوة، إذ أننا هنا بصدد الكلام عن الاقتراح “الأول” الذي تم رفعه إلى الرئيس، فما كان منه إلا أن تعامل معه بهذه الجدية الجَليَّة، وبهذا القدر الكبير من الاهتمام، الأمر الذي انشرحت له كل الصدور السياسية، وجعلها تتنفس وبطمأنينة كاملة ثقةً حد اليقين بأنها مقبلة على نقاش جاد يحظى بدعم رئاسي لا محدود، يؤمن في المقام الأول بمعنى ومبدأ وقيمة وضرورة المشاركة التي تسع الجميع، وتتسع لكل أطيافهم السياسية تحت سقف “الجمهورية الجديدة”، التي تثبت كل يوم أنها لا تعرف الإقصاء، بل وتمقته، وتحتوي كل التوجهات وتحترم تنوعها، وتنصت لكافة الأفكار وترحب باختلافها، وتنظر بعين الاعتبار لشتى الرؤى وتؤيد حقها في التعبير عن نفسها، طالما تجمعها أرضية وطنية واحدة، ويحمل أصحابها ذات البوصلة التي قد يتأرجح مؤشرها لكنه يبحث دومًا عن اتجاه المستقبل الذي يليق بهذا الوطن، ويحقق طموحات هذا الشعب.
وكما هو الحال دائمًا مع القرارات أو المبادرات أو المواقف التي تمس بشكل مباشر التفاصيل المهمة التي يُعنَى بها المجتمع، وتؤثر على مناحي حياته، وملامح مستقبله، اتسعت ردود الأفعال، ولم تتوقف إلى الآن، برغم انقضاء أيام على استجابة الرئيس لهذا المقترح الذي أعلن عنه مجلس أمناء الحوار الوطني، بشأن استمرار الإشراف القضائي على الانتخابات، عبر تعديل تشريعي في قانون الهيئة الوطنية للانتخابات.
كان القاسم المشترك بين الآراء على اختلاف أصحابها، والأطياف السياسية التي يعبرون عنها وينتمون إليها هو القناعة الجماعية بأننا أمام رغبة شديدة وحرص أكثر شدة من الدولة على ضمان نزاهة وشفافية أية انتخابات مقبلة.
حالة من الإجماع كانت الأكثر وضوحًا على الجانب الآخر بين نواب الشعب تحت “قبتي النواب والشيوخ”، إذ كانوا في صدارة المشهد المؤيد والشاكر للرئيس على استجابته، ليس فقط لانحيازه الدائم لقضية الشفافية الانتخابية، وصون إرادة الناخبين التي يودعونها أصواتًا حرة في “الصناديق”، ولكن لما مثلته كذلك تلك الاستجابة – وفق وصفهم- من “دفعة قوية” لانطلاق فعاليات الحوار الوطني ٣ مايو القادم، على أساس واحد هو أن المشاركين فيه “شركاء في المسئولية”، وهو ما عليهم أن يعوه جيدًا، ويترجموه سويًّا بجهد واجتهاد في تقديم رؤى جادة وموضوعية تُمكِّن مصر من عبور التحديات التي تواجهها، ومن ثم يكونون وبحق جزءًا أصيلًا من “صناعة القرار”، بأدوار فاعلة وعملية في صياغة ورسم ملامح المستقبل.
المعنى ذاته أكده ضياء رشوان المنسق العام للحوار الوطني، لدى انضمام رموز وقيادات فكرية وسياسية وحقوقية وفنية إلى لجان الحوار.. بمنتهى البلاغة اختصر – في رأيي – رشوان كل الكلام، عندما قال: “مصر تتسع للجميع، والخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”.. كل الآراء داخل المجلس تصب هي الأخرى في الخانة ذاتها، بأننا إزاء حياة ديمقراطية سليمة، وشعب صار يتحدث بصوت عالٍ تسمعه وتتجاوب معه قيادته السياسية، التي يسعدها إتاحة المجال أمامه ليتحدث ويعبر عن نفسه بنفسه، في ظل “جمهورية جديدة”، بمنهج جديد، لا انفراد فيه برأي، ولا استئثار بقرار.
واسمحوا لي أن أعود بالذاكرة إلى تصريح لرشوان عمره قرابة ال ٤ شهور، حينما شدد على أن “كل جلسات الحوار الوطني ستكون علنية، إذ لا أسرار على المواطنين”.. وهو ما أبني عليه أنا بدوري مطلبي للمواطنين أنفسهم بمتابعة مجريات هذا الحوار الوطني لحظة بلحظة، لا يومًا بيوم، ولا حتى جلسة بجلسة، فكل النقاشات، بكل الآراء، في كل القضايا، تتكلم عنهم هم، بهمومهم وأحلامهم، حاضرهم ومستقبلهم، وأكثر ما يشغلها هو ما يشغلهم.
نعم، أتصور أنها الجزئية الأهم، ولعلها غاية الغايات من هذا الحوار الوطني، أن نزرع بذرة الإيجابية في الأرض المصرية، لتطرح وعيًا يغلب على الجميع، ويغلب أية مؤامرات ومخططات، خارجية كانت أو داخلية، تسعى إلى الإضرار بهذا الوطن، الذي يبقى المواطن الواعي درعه، وخط الدفاع الأول عنه، في وجه “حروب الأفكار”، التي تُصوِّب طلقاتها بلا هوادة نحو الرؤوس، فإذا سقطت العقول، سقطت الأوطان.
في النهاية، أهمس في أذن كل مَن نال شرف المشاركة في هذا الحوار الوطني التاريخي، أن يضع عنه انتماءه الضيق لحزب أو فكر أو أيديولوجية، ويضع نُصب عينيه انتماءه الأكبر لوطن عليه أن يجعله ملء العين أمام العالم الذي يرقب هذا الحدث المصري المهم، ويترقب ما سيفضي إليه من نتائج.
يا سادة، أعدوا للحوار الوطني ما استطعتم من حكمة، ومن سداد الرأي.. فمصر تستحق.. والمصريون يستحقون.
mhamid.gom@gmail.com