تشكل حوكمة ثلاثية الأرض والتخطيط والعمران في الواقع الإسرائيلي مركَّباً مركزياً في السيطرة على الحيّز وإنتاجه وتهويده. ثمة بين هذه الثلاثية جدلية وتآزر لتحقيق أهداف أيديولوجية وجيوسياسية واجتماعية اقتصادية، وتشكيل حدود تطوير على المستوى القطري واللوائي والمحلي. وقد حدثت تحولات وتغيرات في جدلية العلاقة بين مركَّبات حوكمة الثلاثية والمرافقة لتحولات عالمية وقطرية ومحلية. بعض هذه التحولات مرتبط بالمشروع الصهيوني وانتقاله من حال ما قبل الدولة إلى حال ما بعد إقامتها، وبعضها الآخر متعلق بتغيرات بنيوية وظائفية مرافقة لتغيرات جيوسياسية وديموغرافية واجتماعية اقتصادية مواكبة لتغير أيديولوجيا نظام الحكم الذي انتقل من أيديولوجيا اشتراكية لدولة الرفاه إلى أيديولوجيا اللبرالية – اقتصاد السوق.
فرغ العدو الصهيوني أو قارب على الانتهاء من تدمير كل مقومات الحياة في قطاع غزة، فبعد أن قتل وأصاب بجراحٍ بالغةٍ في معظمها، ربما أكثر من مائة ألف فلسطيني من سكان القطاع، أغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن، عمد إلى تدمير البيوت والمساكن وسَوَّى أغلبها بالتراب، وقصفها على رؤوس ساكنيها بالصواريخ المدمرة وبقذائف الدبابات الضخمة، وحطم السيارات والآليات بدباباته التي داستها وسحقتها، وأتلفت في طريقها كل ما تجده من ممتلكات وتجهيزاتٍ.
وقام عامداً وقاصداً بصورةٍ ممنهجةٍ ومنظمة، وفق خططٍ مرسومة وخرائط موضوعة، إلى تدمير المساجد والمدارس والمعاهد والجامعات، والأسواق والمحال التجارية، ومخازن الأغذية والأفران والمخابز، وخزانات المياه ومحطات التحلية، وأخرج عن الخدمة نسفاً وتدميراً المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات الخاصة والصيدليات ومخازن الأدوية، وهئيات الدفاع المدني الصحية وسياراتها وطواقمها ومعداتها.
ودمر البنى التحتية كلها، فلا شوارع ولا طرقات، ولا مجاري ولا كهرباء، ولا مياه صالحة للشرب ولا أخرى مخصصة للخدمة، ولا قدرة على جمع النفايات والتخلص منها، حيث تراكمت في الشوارع والطرقات بصورةٍ مهولةٍ ومخيفة، مما تسبب في انتشار الروائح الكريهة والأمراض والأوبئة، فضلاً عن السيول التي أغرقت الشوارع ودخلت إلى الخيام ومناطق الإيواء، بسبب الأمطار الغزيرة وتعطل آليات الصرف الصحي.
تعمد العدو الإسرائيلي القيام بكل ما سبق ذكره وغيره مما لم آت على تفصيله لكثرته وتكراره كل يومٍ وفي كل مناطق القطاع، رغم النداءات الدولية، ومساعي التهدئة ومحاولات فرض وقف الحرب وإنهاء العمليات العسكرية، إلا أنه لا يصغي للمواقف الدولية، ولا ينصاع للقانون الدولي، ولا تعنيه قرارات محكمة العدل الدولية، ولا يخشى أن يوصم بالإبادة الجماعية وبالجرائم ضد الإنسانية، ولا توقفه جرائمه البشعة وانتهاكاته الخطيرة في حق الفلسطينيين، وهي التي يشهد عليها العالم كله، ويراها بأم العين موثقةً مسجلةً، بالصوت والصورة والمكان والتاريخ، ورغم كثرتها وتكرارها، وتنديد المجتمع الدولي بها، إلا أنه يصر عليها ويواصل تنفيذها واقترافها بأبشع السبل وأسوأ الوسائل.
يعلم العدو الإسرائيلي ما يريده ويخطط له، ويسعى إليه حثيثاً ولا يتعب، ويصر عليه ولا ييأس، ضمن منهجيةٍ واضحةٍ لا تخفى على أحد، وسياسةٍ عنصريةٍ لا يعترض عليها أحد، فغايته التي يتطلع إليها ويخطط لها هي تهجير سكان قطاع غزة، وإخراجهم من أرضهم بكل الوسائل الممكنة، قسراً إن استطاع من خلال دفعهم خارج الحدود خوفاً من العمليات الحربية نحو مصر، وهي المهمة التي يبدو أنه فشل فيها وعجز عن تنفيذها، أمام إصرار الفلسطينيين الرافضين للهجرة والعازفين عن اللجوء الجديد، وبسبب الموقف القومي المصري الرافض لتهجير سكان القطاع إلى صحراء سيناء.
أمام عجزه عن تحقيق هدفه بالوسيلة الأولى، عمد بالتظافر مع الجهود الدولية برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ومعهما عددٌ غير قليل من الدول الأوروبية المتوافقة معهما والملتزمة بسياساتهما، القائمة على حماية المشروع الصهيوني، وضمان أمن واستقرار “الدولة الإسرائيلية”، والدفاع عنها تجاه الأخطار المحدقة بها، والتي تهدد استقرارها ووجودها، إلى الوسيلة الثانية التي تحقق الغاية نفسها، وتحقق أهدافهم المنشودة، وهي التهجير الطوعي الإرادي.
ترتكز الوسيلة الثانية على سياسة التجويع المذل والمميت، والحصار الخانق القاتل، التي تخيره بين الموت قتلاً أو الفناء جوعاً، حيث عمد إلى حرمان المواطنين الفلسطينيين من مياه الشرب والخبز والغذاء وكل أشكال الطعام، إلى الدرجة التي باتوا فيها يأكلون نبات الأرض وأعشابها، وعلف الحيوانات وطعامها.
كما حرمهم من الملبس والمأوى والفراش والغطاء، إذ أتلف موجوداتهم وحرق ثيابهم وملابسهم، وفراشهم وغطاءهم، وضيق عليهم في خيامهم، وقصفهم في أماكن إيوائهم، وتعمد ملاحقتهم إلى الأماكن التي أشار عليهم بالانتقال إليها والإقامة فيها، ليجعل حياتهم بؤساً وعيشهم في قطاعهم مستحيلاً.
وبهذه السياسات الجائرة، والممارسات العنصرية المدمرة، والتي أضيف إليها مؤخراً وقف الدعم المالي لمؤسسة الأونروا، وهي التي يستفيد من خدماتها مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في غزة خصوصاً، وفي عموم سوريا ولبنان والأردن ومصر، تكون إسرائيل وحلفاؤها قد أطبقوا على الشعب الفلسطيني خاصةً في غزة، واستكملوا الحلقات الثلاث المطلوبة لتنفيذ مشروعهم واستكمال مخططهم، الجوع والحصار والحرمان، إلى جانب التدمير والخراب والقضاء على كل عوامل الصمود والبقاء، وثالثها القتل الممنهج والإبادة المقصودة والمجازر المتعمدة، التي من شأنها في حال تظافرها وتآمر الدول الكبرى على فرضها، أن تحقق للإسرائيليين حلمهم القديم، وتوصلهم إلى الغاية المنشودة، في الأرض الأكثر والسكان الأقل.
لكن الذي يبدو في الأفق ويظهر، أن الشعب الفلسطيني ثابتٌ في أرضه وصامدٌ على حقه، وأن مقاومته شرسةٌ عنيدةٌ، وهي في الميدان قوية، وفي القتال شديدة، تكبد العدو خسائر فادحة، وتجبره على التراجع والانكفاء، والتنازل وتغيير الأهداف، ما يعني أن مشاريعهم ستفشل، وأن مخططاتهم ستحبط، وأن أحلامهم ستبدد، وربما تصبح أحلامهم كوابيس ترعبهم من الغد الآت، وتخيفهم من المستقبل القادم.
حالياً تخضع الأراضي العربية التي احتُلت سنة 1967، والتي ما زالت تخضع لإسرائيل، لثلاثة أنواع من النظم التخطيطية. فالقدس الشرقية والجولان يخضعان للسيادة الإسرائيلية المفروضة قسرياً، وتطبق عليهما إجراءات التنظيم نفسها المعمول بها في إسرائيل، مع فارق استخدام تخطيط مطور للاستعمار الصهيوني القروي والمديني، ومعوّق ومحاصر للتخطيط العربي. أمّا في الضفة الفلسطينية فهي رسمياً تخضع لقانون التنظيم الأردني لسنة 1966 وما أُجري عليه من تعديلات بموجب أوامر عسكرية تسري على المنطقة المسماة «ج»، والتي يمارس الاحتلال فيها نموذجين من التخطيط وتطبيقه وإدارته: الأول يخص المستوطنين الإسرائيليين، والآخر يخص الفلسطينيين. ففيما يتعلق بالإسرائيليين، فإن مؤسسات التخطيط تابعة رسمياً للحكم العسكري، لكنها عملياً تطبق النظام البيروقراطي ونهج التخطيط الساري والمعمول به في إسرائيل. أمّا بشأن الفلسطينيين، فتطبق عليهم ضوابط التخطيط الانتدابي الذي ما زال ساري المفعول، ومعوقات الحكم العسكري الإسرائيلي.
بناء على فكر ومضامين ورسالة المخطط الرئيسي التوجيهي لاستشراف إسرائيل لسنة 2020، تم إعداد مخطط قطري رسمي لاستخدامات الأراضي رقم 35 الساري مفعوله حالياً وحدد هذا المخطط سياسات وأدوات التخطيط من خلال وضع خطة استخدام أراضٍ لإسرائيل داخل الخط الأخضر. وقد صادقت الحكومة الإسرائيلية على المخطط القطري رقم 35 سنة 2005، وأصبح مخططاً ملزماً لمضامين المخططات الهيكلية اللوائية والمحلية حتى سنة 2035. وأدخل هذا المخطط لغة جديدة في نموذج ومدارس التخطيط منطلقاً من مبادئ التخطيط المستدام. وبقيت حدود المخطط محافظة على حدود إسرائيل داخل الخط الأخضر،
كما هو شأن سائر المخططات القطرية والإقليمية الرسمية السابقة، بالإضافة إلى القدس الشرقية وهضبة الجولان اللتين ضمتا إلى السيادة الإسرائيلية خلافاً للقانون والأعراف الدولية والأممية. لكن المخطط تجاوز، في منطقه التخطيطي، هذا الحد الرسمي (الخط الأخضر)، إذ أتى إلى ذكر المركَّبات الوظائفية والبيئية ليشمل منطقة الضفة الفلسطينية
والتي تدار من قِبَل مؤسسات تخطيط تابعة للاحتلال الإسرائيلي،47 وخصوصاً في المنطقة المسماة «ج» بحسب الاتفاقيات المرحلية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية والتي تعرف باتفاقيات أُوسلو، على الرغم من إبقاء التعامل معها رسمياً كأنها خارج حدود المخطط بصفتها مناطق خارج سيادة إسرائيل الرسمية،
كذلك التفت المخطط إلى حاجات المستعمرين الصهيونيين في الضفة الفلسطينية وربطهم بإسرائيل وظائفياً، بينما تجاهل الفلسطينيين وحاجاتهم مفترضاً أن السلطة الفلسطينية هي المسؤولة عن التخطيط الحيّزي والحوكمة المَدَنية، بما في ذلك الأرض والعمران، في المنطقتين «أ» و«ب» بحسب اتفاقيات أوسلو.