رغم تعدد النظريات التي تصدت بالحلول لحمى الاستهلاك الترفي إلا أنها تكاد تتفق على دور التوجيه والتثقيف الفكري لتعديل سلوكيات المجتمعات وضبط تصرفاتها نحو الاستهلاك المتهور والتفريق بين حاجاتنا الحقيقية من الوهمية.
تعديل الدافع والقناعة يكاد يكون العامل الأهم في التغلب على شره الاستهلاك .. وبالطبع لا تجد أحكم ولا أنصع من التعاليم الإسلامية في ترسيخ قناعة تامة بالترشيد في أمورنا كلها وتفعيل دور سلم الأولويات بتقديم الأهم على المهم، والنظر للاستهلاك على أنه عبادة وطاعة وغريزة فطرية إذا اتسمت بالانضباط دون إفراط ولا تفريط.
التصدي للنزعة الاستهلاكية لن يكون فقط بسياسات اقتصادية تحد من الاستيراد، ولكن أيضا من خلال تكوين جيل جديد يؤمن بقيم إنسانية رفيعة تركز على ما وراء المادة، أو الجانب اللا مادي في حياة الفرد. أحد عوامل ظهور التعبيرات الروحانية الجديدة في المجتمعات الرأسمالية هو مواجهة التفسخ الاجتماعي، والاستهلاك الشره، وارتباط الإنسان بالماديات على حساب الجوهر الإنساني الروحي.
هذه إحدى القضايا التي يجب أن تهتم بها مؤسسات التنشئة باختلاف صورها. التعليم من خلال التركيز على التربية المدنية، وتشجيع الطلاب والطالبات على تكوين نظرة إنسانية للحياة، والمشاركة في مبادرات اجتماعية تطوعية، لا تجعل كل اهتمامهم مرتبطا بالمادة
. وقد تفاعل المفهوم الاستهلاكي المفرط مع عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية حتى صار ثقافة يومية معاشه نمارسها كشيء طبيعي كما نشرب الماء ونتنفس الهواء، كما صار جزءا رئيسيا من اقتصاديات الدول وركائزها السياسية معتمدا في ذلك على دور الأعلام في بث ثقافة الاستهلاك عبر إعادة تشكيل وعي جماهيره العريضة شرقا وغربا بحاجاته المتجددة للتغيير والتحديث.
فقد غذت الرأسمالية مفهوم الحاجة المستمرة لأنسان العصر، والنزوع المتجدد للاستهلاك وخلقت بداخله الدوافع لإشباع الاحتياجات الكثيرة التي لا تنتهي حتى بات الاستهلاك عنصرا رئيسيا في منظومة حياتنا اليومية.
فلا غرابة أمام عبقرية الرأسمالية المتوحشة ان تستثمر كل مناسبة في حياة الأنسان لتحولها الي سلعة وتجارة موظفة قدراتها علي الضغط بالميديا والإعلان الجذاب، مثل الأعياد الدينية وأعياد الميلاد وطقوس الزواج والأنجاب ومواسم الربيع، واستحدثت المهرجانات للاحتفال بالطبيعية واستحدثت كوسام دخول المدراس والإجازات الصيفية وغيرها لشراء المزيد من السلع والحصول علي كل خدمات الترفيه والتسلية.
وللأسف فان العولمة الاقتصادية، قد حولت كل الكماليات في حياتنا الي ضروريات ولكي يحظى الأنسان بالمزيد من المال لإشباع هذه الكماليات فقد اضطر للعمل ساعات اكبر وجهد مضاعف علي حساب صحته وراحته النفسية والعصبية لتوفير نفقات هذه الكماليات وتغطية نفقات هذه الثقافة الاستهلاكية.
الإعلام من خلال عدم الاستسلام للإعلان البذخي، الذي يوظف خيال المشاهد، وتطلعاته الزائفة على نطاق واسع، لا يخلو من استخدام ممنهج للمرأة التي تحولت إلى جسد أو عارضة للوجاهة. ويرجي من الإعلام أن يطرح هذه النوعية من القضايا سواء ما يتعلق بالآثار السلبية لتفشي النزعة الاستهلاكية أو التحولات الاجتماعية المرتبكة في المجتمع حتى يتشكل لدي الجمهور الوعي لتقييم سلوكهم الاجتماعي. أما الخطاب الديني فهو أحد الوسائل غير المباشرة في تدعيم ثقافة الاستهلاك من خلال تجنب نقد الممارسات الاجتماعية الاستفزازية أو محاباة الطبقات المترفة أو عدم التركيز على الجوانب الإنسانية أو الأخلاقية والإفراط فقط في الحديث عن الجوانب التعبدية أو الشعائر.
للأسف الشديد فان ثقافة الاستهلاك أثرت تأثيرات سلبية خطيرة علي المجتمعات خاصة مجتمعاتنا العربية سواء علي الاقتصادي أو الاجتماعي معا، حيث تسببت ثقافة الاستهلاك الي خفض معدلات الادخار ومن ثم تقليص مساهمات أفراد المجتمع في تحقيق المشروعات التنموية مع حكوماتها، كما أدي ذلك الي تقلص حركة التجارة الداخلية نتيجة نقص السيولة النقدية بين أفراد المجتمع.
ونجم عن انخفاض الدخل المادي عجز الكثير من الأسر عن الوفاء بالتزاماتها المعيشية وأعبائها اليومية مما أدي تباعا الي تعميق الخلافات الأسرية وتعرض رب الأسرة الي الملاحقات الأمنية لعدم قدرته علي سداد مديوناته مما يؤدي لتشتت أفراد أسرته.
بل ان بعض الإباء قد هربوا من زوجاتهم وأبنائهم لفشلهم في تغطية نفقات المعيشة، وانتشرت حالات الطلاق الناتجة عن هذه الأزمات المالية في الكثير من البلدان العربية.
وخرجت العديد من الدراسات التي بحثت تأثيرات الافراط في الانفاق وانتشار ثقافة الاستهلاك وخلصن في مجملها الي ان ثقافة الاستهلاك قد أدت الي انتشار الجرائم سواء بين الطبقات الغنية او الفقيرة، في مصر تسببت ثقافة الاستهلاك وشراء الام للعديد من الأجهزة الغير ضرورية لتزويج ابنتها في دخول الألاف منهم أروقة السجون بتهمة عدم قدراتهن علي دفع المستحقات من الشيكات التي وقعن عليها وهو يطلق علهين باسم ” الغارمات ” وهو ما حدا بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الي التكفل بسداد هذه المستحقات من صندوق تحيا مصر وإخراج هذه الأمهات الغارمات من السجون.
وحتي في البلدان العربية التي تمثل دخول الأفراد فيها أعلي النسب عالميا مثل الأمارات والسعودية وغيرهما، فان الكثير سكانها يعانون من الشراهة في الاستهلاك هو مرض العصر، ولم تفلح ارتفاع متوسطات رواتبهم في سد تنامي إشباع احتياجاتهم فلجأوا الي الشيكات البنكية لاستكمال دفع نفقات هذه الاحتياجات وعجز الكثيرون عن الوفاء بسداد هذه الشيكات فبرزت ظاهرة الشيكات المرتجعة في الخليج. تتعلق أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة بتشجيع الكفاءة في الموارد والطاقة، واستدامة البنية الأساسية، وتوفير إمكانية الحصول على الخدمات الأساسية، وتوفير فرص العمل اللائق وغير المضر بالبيئة، وتحسين جودة الحياة لصالح الجميع. ويساعد تطبيق أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة على إنجاز خطط التنمية الشاملة، وخفض التكاليف الاقتصادية والبيئية والاجتماعية مستقبلا، وتوطيد القدرة التنافسية الاقتصادية، وخفض حدة الفقر.
وتستهدف أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة ”إنتاج المزيد بشكل أفضل وبتكلفة أقل“، وزيادة المكاسب الصافية في الرفاه الناشئة عن الأنشطة الاقتصادية بخفض استعمال الموارد وتقليل تدهورها وما ينشأ عنها من تلوث، على مدار كامل دورة الحياة، مع العمل على زيادة جودة الحياة. ويدخل فيها شتى أصحاب المصلحة، ومنهم أصحاب الأعمال، والمستهلكون، والمسؤولون عن رسم السياسيات، والباحثون، والعلماء، وتجار التجزئة، ووسائط الإعلام، ووكالات التعاون الإنمائي.
وهي تقتضي أيضا اتباع المنهجية في النهوج والتعاون فيما بين الجهات الفاعلة العاملة في سلسلة الإمداد، بدءا من المنتج وحتى المستهلك الأخير. وتشمل، من بين ما تشمل، إشراك المستهلكين من خلال التوعية والتثقيف بأنماط الاستهلاك والحياة المستدامة، وتزويد المستهلكين بما يكفي من معلومات من خلال المعايير والملصقات التعريفية، والانخراط في المشتريات العامة المستدامة.
ترشيد إعانات الوقود الأحفوري غير المتسمة بالكفاءة والتي تشجع على الاستهلاك المسرف، عن طريق القضاء على تشوهات الأسواق، وفقا للظروف الوطنية، بما في ذلك عن طريق إعادة هيكلة الضرائب والتخلص بالتدريج من الإعانات الضارة، حيثما وجدت، لإظهار آثارها البيئية، على أن تراعى في تلك السياسات على نحو كامل الاحتياجات والظروف الخاصة للبلدان النامية، والتقليل إلى أدنى حد من الآثار الضارة التي قد تنال من تنميتها، وعلى نحو يكفل حماية الفقراء والمجتمعات المحلية المتضررة.
من خلال ما تقدم تتضح إشكاليات وتساؤلات مهمة، ويبدو أن السؤال الأكثر أهمية لدى صانع تلك الثقافة ومروجها هو: كيف يمكن خلق ثقافة عالمية موحدة بين الناس تزيدهم رغبة وميلا وطموحا نحو اقتناء كل ما هو مصنع ومتداول في الأسواق وما السبيل لتأسيس “اتفاق وظيفي جمعي” قادر على تبديل الثقافة التقليدية التي تحكم الأسواق بنوع آخر من الثقافة الحديثة التي تجرد الشعوب – تدريجيا – من أفكارهم وهويتهم، وتلغي مسألة الخصوصية الثقافية والتاريخية؟.
وتبقى الإجابة لدى صانع تلك الثقافة مرهونة بمدى قدرته على ابتكار وسائل أكثر ترغيبا وأعظم تأثيرا وأقوى قدرة على “غسل أدمغة” البشر وتفكيك أفكارهم واختراق عقولهم بهدف تصنيع ثقافة استهلاكية قابلة للتعميم والانتشار وهنا تأتي إشكالية من نوع آخر لدى متلقي هذه الثقافة، الذي يجد نفسه غير قادر على المساهمة في الإنتاج العالمي بعجزه عن تصنيع ما يمكن تسويقه أو طرحه في سوق المنافسة. وهنا يقف أمام تساؤلات مثل ما مدى تأثير ذلك على المجتمعات الأقل تطورا وما مستقبل التنمية في المجتمعات العربية التي ينتمى إليها وكيف يمكن الحد من انتشار ثقافة الاستهلاك لدى معظم الشرائح الاجتماعية في تلك المجتمعات وهل يمكن التحكم في تسارع انتشار تلك الثقافة في زمن السماوات المفتوحة وتكنولوجيا الاتصال؟.
إن الإجابة عن تلك التساؤلات المثارة، والإشكاليات المطروحة مرهونة بقدرة هذه الشعوب على امتلاك وسائل المعرفة، والوعي بالثقافة الكامنة والظاهرة الموجهة في عصر العولمة، أي الوعي بكل من ثقافة الأنا وثقافة الآخر، بالإضافة إلى العمل على وضع استراتيجية متكاملة قادرة على مواجهة تحديات العولمة والحد من خطورة الاختراق الثقافي الداعم للاستهلاك الترفي. ويتطلب ذلك بالضرورة:
أ- توصيف أزمة الواقع العربي والوقوف على الاختلالات الهيكلية فيه.
ب- رصد أنماط الاستهلاك الترفي في العالم العربي في ظل متطلبات النظام العالمي المعاصر، موضحين شيوع ثقافة الاستهلاك في ارتباطها بحضارة السوق الدولي من ناحية، والمال النفطي من ناحية ثانية، والتحولات البنائية من ناحية ثالثة.
ج- استشراف مستقبل التنمية في البلدان العربية في ضوء العلاقة الجدلية بين العالمية والمحلية، مركزين على قضايا تكنولوجيا الإعلام والتعطش إلى الاستهلاك.
وقد يكون من المفيد – في هذه الدراسة أن نعرض لبعض الاعتبارات الأساسية التي تلقي الضوء على فهم وتحليل عوامل تشكل ثقافة الاستهلاك وتغلغلها بين الجماهير على اختلاف أوضاعهم ومستوياتهم الاجتماعية.
–
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان