الحنينُ الذي ضربَ أوصالَه قد امْتزجَ بدهشةٍ عارمة، لم يستطعْ معهما المقاومةَ أكثرَ من ذلك؛ أعلنَ استسلامه؛ وأغلق الكتابَ الذي بين يديه، وإن بقِيَ جالسًا خلف مكتبِه – القريب من باب الحجرة – دون حراك..
راح عقلُه يحلِّقُ في سماءِ المُمْكِن تارةً، ويطوف أُخْرَى حولَ اللامُمْكِن؛ يبحثُ عن أجوبةٍ لبعض الأسئلة التي تتردد في رأسه: “لماذا يتذكَّرُ والده المتوفي الآن؟ ولماذا يتذكر حكايات جدته عنه؟”.
رفعَ وجهَهُ ينظر إلى زميل غرفته الذي يجلس بدوره على مكتبه في الجهة الأخرى بجوار النافذة، ثم أشاحَ بوجهه عنه؛ يقاوم رغبةً مُلِحَّةً في أن يقُصَّ على مسامعه بعضًا من حكايات الجدة..
انتبه زميله إلى الأمر، وقد انتقلت الدهشة إليه مما جعله يقول: “ماذا هناك، يا منصورُ؟ لماذا توقفت عن المذاكرة؟”، ثم ابتسم رغمًا عنه وهو يستطرد: “لمَ تنظرُ إليَّ ببلاهة هكذا؟”، سأله ثم انطلق ضاحكًا؛ مما جعل منصورًا يضحك بدوره..
بعد لحظات من الضحك قال منصور:
- أنت لم يمر على سكنك في بيت المغتربين أكثرُ من ثلاثة أشهر، أليس كذلك؟
- ثلاثة أشهر وعشرة أيام بالتمام والكمال، لقد تم قبولُ طلبِ تحويلي إلى فرع الكلية هنا بالقاهرة متأخرًا، تركت محافظتي على عجلٍ، ثم قصدْتُ بيت المغتربين الذي رحب بقدومي، ومن حسن حظي أن أقمت في نفس الغرفة معك.
صمت بعدها لحظات يفكر في أمر ما، ثم قال: “ماذا هناك؟ أشعرت بالملل مني في هذه المدة القصيرة؟”. - العكس هو الصحيح، أشعر كأني أعرفك منذ سنين، أنت ودود طيب المعشر، حتى أنني أجد في نفسي الرغبة بالحديث معك عن والدي المتوفي، وهو شيء غريبٌ بحق؛ فأنا لم أحكِ لأحد عنه من قبل.
أغلق الكتاب الذي بين يديه بدوره، ثم نهض وتحرك في الغرفة متجاوزًا الفراشين المصنوعين من الخشب الذين يقعان في منتصفها، جلس على طرف الفراش القريب من مكتب منصور
وهو يقول: “لا عليك يا صديقي، كلِّي آذان مصغية”..
استهل حديثه بأن والده – رحمه الله – قد مات شهيدًا في حرب أكتوبر؛ جذبته تلك المعلومة وجعلته ينصت أكثر لكلام منصور، والأخير يكمل: “هو لم يرَني؛ فقد ولدْتُ بعد استشهاده في المعركة، لكن كما حكت لي جدتي: حين علم بأن زوجته (أمي) حُبْلَى، وكان قد أتى من الجبهة ليقضي بينهم عطلة لا تتعدى بضعة أيام، أخبرهم أنه يشعر بطبول الحرب مع العدو الإسرا*ئيلي قد دقَّت بالفعل، ثم أوصاهم إن انتصرنا يسمُّونني منصورًا، وبالفعل حاربنا وانتصرنا، ولدتُ بعدها بأيام وأسموني منصورًا، ولم يعُدْ هو مرة أخرى، ثم جاءهم خبرُ استشهاده في الحرب”.
ظلَّ زميلُه يستمعُ إليه في إنصات تام دون أن يقاطعه مرة واحدة، وإن بدا على وجهه أنه يستمتع بالحكي، تنهد منصور وأكمل:
- تولت جدتي رعايتي بعدها، الغريب في الأمر ما أخبرتني به رحمها الله لاحقًا حولَ بعض الأمور التي حدثت وأنا ما زلتُ في المهد طفلًا صغيرًا، كانت ترى أبي يرتدي البياض، يدخل غرفتي ليلًا، أحيانًا يكتفي بتقبيل رأسي ويرحل، وفي ليالي الشتاء كان يجذب على جسدي الغطاءَ، لقد رأتْه جدتي كما رآه أحد أعمامي مرةً.
صمت منصور قليلًا، فقال زميله:
- إن ما تقوله ليس غريبًا، الشهداءُ أحياءٌ عند ربهم يرزقون كما أخبرنا القرآن.
- ونعم بالله.
علا صوت منصور فجأة: - لكن لماذا أذكره الآن؟! بل يلح على عقلي أن أخبرك تلك الأمور في وقت نحن أحوج فيه إلى كل دقيقة نقضيها في الاستذكار؛ فقد اقترب موعد الاختبارات النهائية.
- لا عليك يا صديقي، سنعوض تلك الدقائق بإذن الله.
قالها ثم عاد إلى مكتبه مرة أخرى، فتح كلاهما كتابه وعادا إلى الاستذكار.
جاء موعد النوم فأغلقا الأنوار، واحتل كل منهما فراشه، يقع فراش منصور بالقرب من الباب، بينما فراش زميله يقع في الناحية الأخرى من الغرفة بالقرب من النافذة..
بمجرد أن وضعا جسديهما على الفراشين غرقا في سُبات عميق، لكنَّ زميل الحجرة ما لبث أن تململ، ثم هبط لينام على الأرض، جذب الغطاء بيده، وغط في النوم..
استيقظ فجأة ليجد نفسه على الأرض، ووجهه مقابل إلى جانب الفراش، والعجيب أن جانب الفراش الخشبي كان يعكس صورة ما، وكأنه مرآة تعكس صورة رجل يرتدي البياض يغلق النافذة من خلفه، والتي نسيا إغلاقها من فرط التعب والمجهود الذي بذلاه في الاستذكار..
التفت خلفه ورآه، ودون سبب واضح اكتفى بابتسامة ارتسمت على وجهه قبل أن يعود إلى نومه..
وهو مغمض العينين كان يستطيع أن يرى الرجل في ملابسه البيضاء وهو يدور حوله دون أن يخطو فوق جسده، يتجاوز فراشه ويذهب إلى فراش منصور ويقف بجانبه، وينحني ويقبل رأسه قبل أن يجذب الغطاء فوقه، ثم يختفي.
في الصباح، بدت السعادةُ على وجه منصور وهو يخبره أنه قد رأى والده رحمه الله في رؤياه..
أخبره زميله بفحوى الرؤيا من قبل أن يتفوه هو نفسه بها؛ مما جعل جسده يرتعش..
عندما استطاع منصور أن يتكلم سأله: “كيف تعرف ما رأيت في حلمي دون أن أطلعَكَ عليه؟!”..
قص عليه زميله كل ما حدث ورآه منذ أن شعر بالملل فهبط من فراشه ونام على الأرض، حتى ذهب والده، لم يتوقفْ منصور عن الدهشة، ثم فجأة ضرب كفًا بكف، وهو يقول: “كيف تراه أنت في يقظتك بينما أراه أنا في منامي؟! إنه والدي أنا!”.
بقي سؤالُ منصور معلقًا في سقف الحجرة دون إجابة واحدة من ثلاثتنا، نعم ثلاثتنا، منصور وزميله وأنا معهم..
في الحقيقة لم يكنْ منصور وحدَه من يشعر بكل تلك الحيرة، لقد كنت أقفُ بينهما هناك، متواريًا عن عيني زميله قدر المستطاع؛ كي لا يراني مرة أخرى، وأنا أشعر بأضعاف حيرة ابني منصور.