بعد مرور نصف عام على الحرب غير المتكافئة في غزة لم تحقق إسرائيل أيا من الأهداف التى أعلنها رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، فمازالت المقاومة قادرة على الكر والفر، ومازالت تنصب الفخاخ للدبابات الإسرائيلية، وتصطاد الضباط والجنود بالرصاص، وتجبر ألويتهم على الانسحاب، ومازالت تطلق الصواريخ على مستوطنات غلاف غزة، فتوجع ما تبقي فيها من ساكنيها، وما زالت تحتفظ بالأسرى لديها منذ السابع من أكتوبر الماضي.
لقد دفعت غزة ثمنا باهظا في هذه الحرب من أجل المسجد الأقصى، ومن أجل فك الحصار، والحصول على حريتها واستقلالها كاملين، فاستشهد أكثر من 33 ألفا من أبنائها، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وتم تهجير أكثر من مليون شخص صاروا بلا مأوى، وتدمير أجزاء كبيرة من المناطق السكنية والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس، وتحولت الأراضي الزراعية إلى بوار، بينما بقيت أعداد شهداء المقاومة إلى الآن غير معروفة، رغم إعلان إسرائيل أنها قتلت مئات منهم.
ورغم فداحة التضحيات، وقسوة المجاعة والإبادة الجماعية التى تألمنا لها على مدى نصف العام، فإن معسكر العدو يتألم أيضا، ويصحو على ضربات المقاومة في معظم أيامه، وعلى صباحات حزينة، لم تفقده ثقته بجيشه فحسب، وإنما أفقدته ثقته بوجوده، وبإمكانية استمرار دولته، وصدق ربنا جل شأنه: “إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون” النساء 104 .
وفي تقرير لشبكة (بي بي سي) البريطانية تحت عنوان (هل اقتربت إسرائيل من القضاء على حماس؟) أكد خبراء دوليون أن الجيش الإسرائيلي لم يتمكن من الوصول إلى كبار قادة حماس، ولم يعد قادرا على تحقيق إنجاز بشأن الأسرى، وسواء على المستوى الرمزي المتمثل فى الوصول إلى قادة حماس الرئيسيين، أو على مستوى تقويض سلطة حماس على الأرض، فهذا شيء لم تتمكن إسرائيل من تحقيقه.
واعترف خبراء عسكريون إسرائيليون صراحة بخسارة الحرب في تقرير مفصل تحت عنوان (ورطة عسكرية وفشل استخباراتي وميداني) قالوا فيه: ” بعد مضي نصف عام من الحرب يبدو أن الجيش تورط في حرب ليس لها بداية ولا نهاية، الجيش يدور في غزة دون أن يحقق هدفا يذكر، وكل ما يعلن هو قتل المدنيين، وجلب عدد كبير منهم والتحقيق معهم، نحن لم نخسر الحرب فحسب، بل لقد خسرنا أخلاقيا واستراتيجيا وإعلاميا، ومازلنا مستمرين في هذه المهزلة، لننظر إلى ما وصلت إليه الدولة من خسائر فى الجبهة الداخلية والاقتصاد، وتظاهرات كنا في غنى عنها، لكن بيبي (بنيامين نتنياهو) وبن غفير وسيموترتش أرادوها هكذا، إسرائيل خسرت وعلينا الاعتراف بذلك، سيديروت ومستوطنات أخرى مازالت تتعرض للقصف بصواريخ حماس، وهذا دليل على أن الجيش الذي قال إن شمال غزه تم تطهيره قد كذب إعلاميا، ثم عاد إلى الشمال ثانية وذكر نفس الشيء، وما زالت صواريخ حماس تخرج من شمال غزة، لقد أصبحنا أضحوكة بيد حماس، السنوار هو من يتحكم بإدارة الحرب وليس جيشنا، جيشنا متعب، وقد تعب نفسيا، فهو يدور ويراوح في نفس المكان، وأهدافه غامضة، بينما حماس تحت الأرض تترصد وتخطط ثم تنفذ، وجنودنا صيد ثمين وسهل لها، ولديها تكتيك، وهي تعرف جميع تحركات الجيش، فكيف لو كان لدى حماس نصف أسلحتنا ؟ الحقيقة لن نصمد أكثر من شهرين، خططنا العسكرية كلها خطط سياسيين وليست خطط عسكريين، هذا غير مقبول، على نتنياهو أن يعود للعقل والحكمة لننقذ ماتبقى من سمعة إسرائيل، فالعالم كله ضدنا، وأصدقاؤنا تخلوا عنا، وهذا مالمسه الشارع لدينا، وهم محقون في طلب استقالة نتنياهو”.
ونشرت صحيفة (معاريف) الإسرائيلية الجمعة الماضية مقالا لجاكي خوجى بعنوان (الكارثة وثمنها) جاء فيه: “نصف عام مر منذ نشوب الحرب، ووضع إسرائيل يزداد سوءا يوما بعد يوم، حيث فقدنا الكثير من الائتمان السياسي إقليميا ودوليا، ودخلنا مع أصدقاء لنا في نزاعات علنية، وأغلبية دول العالم صارت ضدنا، الحكومات تتحدث عن الإبادة الجماعية، والشوارع تطالب بمحاكمتنا، وجيشنا الذي فقد حتى الآن أكثر من 600 مقاتل يبدو مستنزفا ومحرجا بشكل لامثيل له، وصورته أمام العالم أنه لا يقاتل، بل يقتل المدنيين ورجال الإغاثة، والحكومة منقسمة، وتحاول التغطية على فشلها في تحقيق الأهداف العسكرية، بينما المعارضة تطالب بإسقاطها ومحاكمتها، وإجراء انتخابات مبكرة، وأهالي الأسرى يرتفع صوتهم ويزداد مناصروهم، ووصل الأمر بالشرطة إلى قمعهم والاشتباك معهم ودهسهم بالسيارات واعتقال بعضهم، وهو وضع يهدد بتفكيك المجتمع الإسرائيلي من الداخل”.
أما غزة فهي اليوم الأكثر تماسكا وصمودا، وخطابها المقاوم هو الأكثر قبولا ومصداقية من أكاذيب العدو أمام شعوب العالم، خصوصا أمام أولئك الذين أحسنوا الظن به في يوم من ألأيام، ووثقوا في شعارات السلام التي روج لها، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون غزة الأبية بتضحياتها الجسام أيقونة المقاومة من أجل الحرية لكل أحرار العالم، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال: “وللحرية الحمراء باب..بكل يد مضرجة يدق”، وغزة اليوم هي باب الحرية المباركة لأمتنا، الباب الذي يأخذها إلى طريق الوحدة والالتئام، فتحررعقلها بعد سنوات طويلة من الفرقة والتيه، ويفتح لها آفاق المجد، ويعيدها إلى احترام ثقافتها وحضارتها، والتمسك بخصوصيتها الدينية وسط الأمم.