سأبدأ بشكر الرجال الذين تصدوا لهذه المهمة الصعبة.
فهم لا بجددون دوارا ولكن يحافظون على مكان اجتمع فيه التاريخ والجغرافيا، الفرح والحزن، الضحكة الصافية والدمعة الساخنة، أخلاق القرية، معدنها الأصيل والنبيل في أجمل معانيه وأبهى صوره.
ولكن لا بأس أن نعود إلى بداية القصة أو بالتحديد بداية قصتي مع الدوار.
نحن الآن في أحد أيام عام 1976م.
في ذلك اليوم نادى المنادي معلنا أن ابن خال والدي توفي ودفن بالأسكندرية والعزاء بدوار العمدة.
من سيجلس على الصينية ووالدي يزور مريضا في القاهرة ؟
سألت أمي فردت : لا نعرف متى سيرجع والدك ولكننا سننفذ تعليماته : أنت ستجلس على الصينية إذا لم يحضر أبوك قبل المغرب.
ارتبكت، فهذه هي المرة الأولى التي أتعرض فيها لهذا الموقف، فأبي لا يغادر القرية أبدا ولم يتخلف عن صينية طوال حياته، ولكن لسوء حظي فقد تخلف اليوم.
جلست وعيني اليمنى على باب المنزل وعيني اليسرى على الساعة التي اشتراها لي أبي بمناسبة نجاحي في الإعدادية العام الماضي.
المنزل ليس به تليفون ولا أي وسيلة أستعجل بها قدوم أبي إلا الدعاء.
صدح صوت المقرئ كأنه يجلس إلى جواري فلا يفصل منزلنا عن الدوار غير أمتار قليلة.
اقترب المغرب، فخرجت متظاهرا بالشجاعة حتى ارتقيت سلم الدوار ثم جلست على البلكونة في انتظار وقت الصواني وأنا أتمنى أن ألمح أبي قادما من بعيد حتى يعفيني من حرج تناول الطعام الذي يعده أهل الدرب مشاركة لأهل الميت فيما يسمى ب ( الصواني ).
أنا لا أعرف طقوس الأكل على الصواني ؟ كيف يأكلون ؟ كيف يبدأون ؟ متى ينتهون ؟ كيف أعزم على ضيفي أو ضيوفي على الصينية ؟ وماذا لو شبعت قبلهم؟
كنت غارقا في تساؤلاتي حين دخل أبي إلى الدوار قائلا: السلام عليكم .. شكر الله سعيكم جميعا، وكان ذلك قبل دخول الصواني بدقائق قليلة.
سلمت عليه كما سلم عليه الحاضرون الذين قدموا له التعزية في وفاة ابن خاله.
حاولت أن أنصرف فقال أبي : ستأكل معي فعشت أجمل مظهر من مظاهر التكافل الاجتماعي يمكن أن تراه في حياتك.
بدأ عمي محمود حداد مرسي وعمي عبدالحميد عامر وآخرين لا أذكرهم في تنظيم هذه التظاهرة الجميلة من الحب والمودة والإيثار وجبر الخواطر وتطبيق المبدأ الديني : اصنعوا لآل جعفر طعاما فإن لديهم مايشغلهم.
كان البرتوكول واضحا ويعلمه جميع من بالدوار ماعدا أنا :
-الكل سيبدأ الأكل في وقت واحد وبعد أن تأتي جميع لصواني الجميع وبجلس الحضور في أماكنهم.
-الصينية المنقولة من خارج عائلات الدوار هي الأحق بأن يجلس عليها أحد أقارب المتوفي.
-يتأكد المنظمون من تنفيذ كل بنود البروتوكول ثم يبدأ الطعام.
ينتهي الطعام فتدخل النساء اللاتي ليحملن الصواني على رؤوسهن إلى بيت المتوفي لتأكل عليها زوجة المتوفي وبناته مايساعدهن في البقاء على قيد الحياة.
كانت الصينية تخرج مرتين في اليوم : ظهرا وعند المغرب.
صينية الظهر كانت تتكون عادة من الفطير المشلتت بينما تتكون صينية المغرب من اللحوم أو الدجاج أو البط بالإضافة إلى الأرز المحمر والخضار المطبوخ.
ومن الطعام الذي يحرم وجوده على الصينية المحشي والسبب في تقديري هو أنه لا يصنع المحشي إلا مبتهج ولا يأكله إلا مبتهج وهو ما لا يتناسب مع وقار الموت وجلال الموقف.
رأيت بعيني كيف يتكاتف الناس وكيف يتعاونون وكيف يحرصون على أن يتناول أهل الميت الطعام وكيف يخففون عنهم ألم المصاب ومرارة الفقد.
رأيت بعيني كيف يحدث تبادل للاكلات بين الصواني وكيف تحدث بعض المداعبات اللطيفة خاصة إذا كان المتوفي كبيرا في العمر وأدى رسالته على الوجه الأكمل.
أما قارئ القرآن فهو عادة لا يأكل على هذه الصواني ولكن يذهب إلى منزل أحد أصدقائه ليأكل وجبة خفيفة لأنه لو أكل حتى الشبع فلن يستطيع استكمال القراءة بعد العشاء.
بين الصينيتين كانت تجلجل أصوات القراء وتهز جدران الدوار كل حسب إمكاناته وجمال صوته وحسب موقعه على خريطة القراء.
كان كل خشوع الدنيا يسكن صوت الشيخ عابدين عافية وهو يبدأ تلاوته عصرا ب ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) فيغالب كل من في الدوار ألمه وحزنه على نفسه وعلى المتوفي.
وأتذكر الشيخ أحمد أبو طنش وهو يبدأ تلاوته بقوله تعالى :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).
وأتذكر الشيخ كرم زين – قرأ في وفاة والدي – وهو يتلو : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)
كما أتذكر الشيخ عبدالفتاح عوف وهو يتلو ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) فتهتز جنبات الدوار وتسقط دموع المعزين.
وأتذكر الشيخ عبدالله الزيات بأسلوبه المميز وهو يتبادل
التحية مع المعزين في لحظات الصمت بين الآيتين.
كما أتذكر طريقته الفريدة في القراءة وهو يتلو : ( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ)
أتذكر ونحن أطفال أن الشيخ صلاح أبو اسماعيل ( السياسي الشهير فيما بعد ) قد قرأ القرآن في دوار العمدة في وفاة جدي توفيق بدوي أبوحسين.
وأتذكر أنه انتهج أسلوبا فريدا لم ينتهجه أحد غيره فكان يقرأ الآية أو الآيتين ثم يشرح معانيهما للحاضرين.
ولأن الحزن بوقاره وجلاله وهيبته أخذ مساحته المستحقة من المقال فلا بد أن أنتقل الآن إلى الفرح وقد لعب دوار العمدة في الأفراح والمناسبات العامة دورا لا يقل أهمية عن دوره في الحزن.
فقد شهد دوار العمدة العديد من الزيارات الانتخابية لمرشحي الدائرة إلى شنشور حيث كانوا يعرضون به برامجهم على أهل شنشور.
كما شهد دوار العمدة على امتداد تاريخه الكثير من جلسات الصلح بين المتخاصمين.
كما شهد الدوار – خصوصا ونحن أطفال وقبل أن تنتشر ظاهرة إشهار كتب الكتاب في القاعات – العديد من إشهارات كتب الكتاب.
كان كتب الكتاب في دوار العمدة يبدأ عادة بعد صلاة العصر مباشرة.
وكانت النساء من أسرة العريس يقمن بتحويل حلل الشربات الأحمر إلى الدوار.
كما يقمن بتحويل الصواني التي سترص عليها الأكواب الحمراء ( بلون الشربات نفسه ) ويضعونها في نهاية الدوار انتظارا لتوزيعها على الحاضرين بعد كتب الكتاب.
كان أول مأذون عاصرته هو الأستاذ أحمد الشيشيني وكان بشوش الوجه سريع البديهة يطلق النكات على الجميع ويوزع القفشات في كل اتجاه.
وكانت الاستمارات تملأ في الدوار في نفس توقيت كتب الكتاب.
وكان المأذون يطلب من والد العروس أن يرسل رجلا من الثقات إلى المنزل كي يسأل العروس عن وكيلها ثم يعود الرجل مسرعا ليخبر المأذون أن العروس وكلت والدها أو جدها.
ثم أتى بعد وفاة الشيخ أحمد الشيشيني الشيخ صبري مأذون كوم عياد الذي تولى المهمة بشكل مؤقت حتى تم تعيين مأذون لشنشور وهو الشيخ عبد الحميد أمنه.
كان الشيخ عبدالحميد أمنه يتميز بالجدية والوقار والورع والخشوع.
وبعد وفاة الشيخ عبدالحميد خلا المنصب مرة أخرى ليقوم بمهامه الشيخ أحمد سعيد هيكل مأذون كوم عياد حتى يتم تعيين مأذون جديد لشنشور .
ومن المظاهر الجميلة للدوار هي جلوس عدد من رجال الدرب لا لاستقبال وفود الدواوير الأخرى وتبادل التهنئة معهم بعيد الفطر وعيد الأضحى بينما يقوم رجال آخرون من الدوار بزيارة الدواوير الأخرى وتبادل التهنئة بالعيدين مع أهلها.
والآن حانت لحظة الشكر والامتنان فلا يشكر الله من لا يشكر الناس :
فشكرا جزيلا للقائمين على تطوير الدوار وتجديد هذا المكان الذي جمع بين جدرانه أفراحنا وأحزاننا في تمازج غريب لا يقدر عليه أي مكان آخر.
شكرا جزيلا لمن منحوا دوار العمدة قدرة جديدة على أداء دوره الحيوي في زيادة الترابط بين أبناء المنطقة الواحدة ومن ثم أبناء البلد الواحد.
شكرا للأستاذ سعيد أبو حشيش
شكرا للأستاذ مختار عثمان موسى.
شكرا للأستاذ عبدالحميد الدسوقي
شكرا للأستاذ عامر موسي
شكرا للأستاذ يحي الرفاعي
وشكرا للذين فكروا والذين ساعدوا في إحياء هذا المكان الذي له في كل منزل بصمة وفي كل قلب ذكرى وفي كل حدث حكاية تكتمل بها البهجة أو يكتمل بها الحزن.