كما هو الحال في أرض الوطن ، فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة في بلاد المهجر أيضا ، ويظل معايير النجاح واحدة ،قوامها الجد والكفاءة والاجتهاد والتسلح بالمهارات والتدريب المستمر والجدارات اللازمة لسوق العمل في عالم متغير وسريع التقلبات.
ومن الأزمات التي يعانيها بعض الشباب مشكلة الشعور بالإغتراب داخل الوطن ،ويسعون جاهدين للهروب والرحيل واتخاذ القرار بالسفر وخوض التجربة ،دون حسابات دقيقة ودراسة واعية لكافة الأبعاد.
ومن دفتر أحوال مدرسة الحياة اكتشف البعض من هؤلاء أنهم وقعوا فريسة لشعور فاسد ساهم في صنعه آخرون ممن صوروا لهم أن الهجرة وترك الديار هي مفتاح الحل السحري ،والمخرج من كل الصعاب والتحديات
،لكن في واقع الأمر أن هؤلاء الفارين هم من صنعوا أو علي الأقل أسهموا في صنع هذه الحالة من الغربة بالسلبية المفرطة ،وروح الاتكالية والاعتماد على الأهل وعدم تحمل المسؤولية، وبالتفكير المحدود والحسابات الخاطئة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان والقدرات التي تؤهلهم لتحمل كافة الصعاب.
فقط جرب مرات ومرات وعافر في رحاب وطنك ،دون تمرد وإنكار ، ولو جاءتك الفرصة المواتية التي تليق بك ..خذ قرارك بالهجرة وخوض التجربة المحسوبة ، فمرحبا بهجرة تحفظ للإنسان كرامته وعزته وكبرياءه ،وتحقق له مزيدا من النجاح والتميز.
وبعيدا عن الأمنيات العذبة والأحلام الوردية ،يبدو أن الصورة الذهنية غير مكتملة العناصر في أذهان الكثيرين من أبناء هذا الجيل،فمعظم الشباب وبعض الناقمين علي المعيشة وعلي الأوضاع الاقتصادية ،
تحوي مخيلتهم جملة من الأفكار والتصورات الخاطئة حول طبيعة الحياة وترتيبات الإقامة وفرص العمل الفعلية التي تتواءم مع مؤهلاتهم وطموحاتهم وما يمكنهم إنجازه.
ومن خلال مشاهد واقعية وتجارب عديدة لمهاجرين تركوا بلدهم وعادوا بخفي حنين ،فقد وقع هؤلاء فريسة الانبهار بنداهة “الفرنجة” وبريق المال والشهرة دون مؤهلات وقدرات حقيقغة وجدارات تمنحهم مرتبة الصدارة والتميز في بلاد المهجر وتحصنهم من شرور ومثالب الغربة وتداعياها المؤلمة!.
ومن خلال رحلات عمل لي في بعض الدول العربية والأوروبية،شاهدت نماذج متباينة من أولئك وهؤلاء،والبعض يخشي العودة مخافة الشماتة أو إعلان الفشل!.
والخلاصة أن تجربة الهجرة تستحق الدراسة الوافية قبل اتخاذ القرار بالرحيل أو المكوث في أرض الوطن والبحث عن الذات وتحقيق الآمال تحت ظلته وبين ربوعه العامرة بالخير والنماء.
وقال أحدهم بالنص: “إنها ضريبة الغربة يا صديقي، عندما ظننا أننا حينما اغتربنا فقدنا أوطاننا وأصدقاءنا والكثير من المشاعر والذكريات فقط، كنا مخطئين وسُذّجاً، ولكن فقدنا أمراً جللاً “!.
وبين قرار الاختيار أو الإضطرار فالهجرة في أبسط معانيها حركة الأفراد من بلد إلى آخر بحثا عن فرص أفضل للعمل أو الدراسة، أو لتحقيق تطلعات وطموحات نفسية واجتماعية لكنها تؤدي إلى سلبيات عديدة، وفقا لدراسات عديدة بما في ذلك:
ـ سلبيات اقتصادية: وتتضمن نقص القوى العاملة في البلد الأصلي ،فقدان الاستثمار في التعليم والتدريب ،تأثيرات سلبية على الاقتصاد المحلي ، زيادة التكلفة الاجتماعية في البلد المستقبل.
ـ سلبيات اجتماعية:مثل تفكك الأسرة وانفصال العائلات وتأثيرات أخري محتملة على مستقبل الأبناء،علاوة علي صعوبة التكيف مع الثقافة الجديدة ،ومشاكل اللغة والتواصل،والتعرض للعنصرية والتمييز والتعصب والأمر الأخطر التعرض المباشر لسهام فقدان الهوية الثقافية.
ـ سلبيات سياسية : كمشكلات الأمن القومي ، والتأثيرات على العلاقات الدولية.
ـ سلبيات نفسية: مثل القلق والتوتر النفسي، الشعور بالوحدة والانفصال ، فقدان الثقة بالنفس، ومشكلات الصحة النفسية.
ـ سلبيات بيئية: من بينها زيادة الطلب على الموارد ، التأثيرات السلبية على البيئة المحلية، نقص الموارد الطبيعية ،زيادة معدلات التلوث.
ـ سلبيات الثقافية: مثل فقدان التراث لثقافي ،والتأثيرات السلبية على الهوية الوطنية ،صعوبة الحفاظ على اللغة والثقافة ،التأثيرات السلبية على التراث الثقافي.
كما ترصد بعض الدراسات جانبا من أوهام الهجرة،التي تشير إلى الأفكار الخاطئة أو المضللة حول الهجرة، وتشمل:
ـ أوهام الهجرة الاقتصادية، ومن بينها: وهم فرص العمل الوفيرة،التي لا تتوفر دائما، ووهم الثراء السريع،فالهجرة لا تعني تحقيق النجاح المادي والثروة الفورية.
وهناك وهم المساواة في الحقوق الاقتصادية والمادية في بلاد المهجر.
ومن أوهام الهجرة الاجتماعية:وهم التكامل السهل والتكيف الاجتماعي الذي قد يكون صعبا،وأيضا وهم
الحصول على المكانة الاجتماعية اللائقة ،والتي ربما افتقدها المهاجر في وطنه.
وهناك أيضا وهم القبول الإجتماعي فقد لا يحدث القبول الفوري ، ووهم فقدان الهوية.
ومن بين أوهام الهجرة السياسية : الأمان المطلق ووهم الحقوق الكاملة،ووهم التأثير السياسي!.
ومن أخطر الأوهام النفسية للهجرة والتي يتغافل عنها الكثيرون : وهم السعادة المطلقة ووهم النجاح الفوري، ووهم عدم الشعور بالوحدة، فالمهاجر يصدم بإيقاع الحياة المادية ويعاني من الشعور بالوحدة ويفتقد روح الأسرة والانتماء لكيان اجتماعي والتي كان يتمتع بها في وطنه.
وترصد دراسات أخري جانبا من أسباب بث أوهام الهجرة بين أوساط الشباب مثل نقص المعلومات ،التأثيرات الإعلامية ،القصص الشخصية المضللة، التوقعات غير الواقعية ،الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.
ومن التجارب المرة قرار الهجرة غير الشرعية ووقوع مئات الآلاف من مختلف الدول الفقيرة نسبيا فريسة لأطماع عصابات الإتجار بالبشر، وهي مجموعات منظمة تستخدم العنف والتهديدات لتحقيق أهدافها غير مشروعة، وتشمل هذه الأهداف الإتجار بالبشر لأغراض مختلفة مثل العمل القسري أو الاستغلال الجنسي، أو لأغراض أخرى مثل بيع الأعضاء البشرية، وغيرها.
ولتحقيق أغراضها الخبيثة تلجأ هذه العصابات بتوظيف حجج منطقية وعاطفية واهية لإيقاع ضحاياها ،باستخدام التلاعب النفسي ،وبث الأوهام عبر استخدام الشبكات الاجتماعية ومنصات الإنترنت واستخدام الوثائق المزيفة، الشبكات الدولية ،و أحيانا تلجأ لأساليب الخطف والإحتجاز واستخدام العنف والتهديدات.
ومن أمثلتها عصابات الإتجار بالبشر في شرق آسيا وفي شرق أوروباوفي أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية وفي الشرق الأوسط.
وتسهم الهجرة غير المشروعة في تدمير المجتمعات وانتشار الأمراض وزيادة الجريمة والفساد ومن ثم تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
ويبقي التساؤل.. أين الوطن وسط هذه المعادلة الصعبة،حين يفكر الكثيرون بهذه الطريقة،وأين الرسالة والهدف حين يضل الغالبية من الشباب طريق الصواب ويفتقدون المسؤولية بكافة صورها..
هناك أفكار وإبداعات من الممكن أن تتحقق علي أرض الوطن ، ومع مرور الوقت تحقق النفع والحياة الكريمة ،وربما تحقيق حلم التفوق والثروة وجودة الحياة.
فهناك عشرات القصص لشباب نفذوا أفكارا غير تقليدية وحققوا النجاح في بلادهم ..وعاد آخرون بخفي حنين بعد أن استوعبوا درس الغربة وتحدياتها ومراراتها.
ولكيفية تجنب أوهام وخيالات الهجرة الفاسدة أتصور ضرورة البحث عن المعلومات الموثوقة واللجوء إلى الجهات الرسمية المعنية،وتحديد الأهداف الواقعية وفهم ثقافة بلد المهجر وقوانينها، إضافة إلى التأهيل النفسي والاجتماعي، كما أن السفارات والقنصليات لها دور كبير في التواصل مع المهاجرين وتقييم تجاربهم وتصحيح المسارات قبل فوات الآون.
ومن الإجراءات اللازمة التي قد تحجم أوهام الهجرة تعزيز فرص العمل في البلد الأصلي ،دعم الهجرة القانونية، توفير الدعم الاجتماعي والاقتصادي ،تعزيز التكامل الثقافي الدولي ،وتبادل الخبرات في هذا الشأن، وتعزيز الحوكمة لسياسات وإجراءات الهجرة.
ويبقي سلاح التوعية الدينية والتربية السليمة،ودور الإعلام بكافة قنواته وروافده في شرح هذه الحقائق والمردودات الإيجابية والسلبية والتفكير جيدا قبل اتخاذ القرار بالهجرة والرحيل !.