يحلو لبعض الصبية المؤدلجين تزييف التاريخ، والثناء على الأتراك بخصالٍ ومحامد هم أبعد الناس عنها؛ إذ يدعي هؤلاء أن الحكم العثماني الذي جسم على صدر مصر 297 عامًا (من 923 هـ – وحتى 1220 هـ عام استقلال محمد علي باشا بحكم مصر) كان استكمالًا لحكم “الخلفاء الراشدون”، ويطلقون على الدولة العثمانية “دولة الخلافة الإسلامية”، والحقيقة أن التاريخ المحفوظ والمنقول لنا عبر الثقات يذهب عكس ذلك تمامًا؛ إذ يصف العهد العثماني بـ”الغزو”، ويعدد الجرائم التي ارتكبها الأتراك في حق المصريين وغيرهم، وكيف أنها كانت جرائم تعدت وحشيتها ما فعله التتار حين اجتاحوا العالم الإسلامي.
قامت دولة العثمانيين في العام 923 هـ/ 1517 م، وحول هذا يقول الدكتور محمد البهي، أول رئيس لجامعة الأزهر عقب صدور القانون 103 لسنة 1961م، والخاص بإصلاح الأزهر، وثاني وزير للأوقاف في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر: “ما فعله العثمانيون عند غزوهم مصر من تخريب وتدمير، كان قريب الشبه بغزو التتر لبغداد قبل ذلك بقرنين ونصف”. (الأزهر تاريخه وتطوره: ص 223).
وفي كتابه “هكذا علم الأزهر الأمة”، والصادر تحت إشراف: رواق البحوث العلمية والتحقيق بالأزهر الشريف، ذكر أحمد فتحي عبد الرحمن حجازي، نماذجًا مما فعله العثمانيون عند دخولهم مصر؛ إذ يقول:
“وعَدَّدَ البعض نماذج مما صنعه العثمانيون؛ منها: أن السلطان سليم مكث في القاهرة ثمانية أشهر يجمع من تراث مصر وثرواتها الفنية كل ما استطاع، ويُخَرِّب المساجد؛ والآثار الخالدة؛ لينتزع منها نفائسها، وكنوزها الفنية، ويبعث بها إلى القسطنطينية، ويقبض على أكابر مصر وزعمائها وعلمائها، وأصحاب المهن والفنون فيها، ومهرة العمال، والصُناع، ويرسلهم جموعًا حاشدة في السفن إلى عاصمته، وقد سَجَّلَ ذلك ابن إياس المؤرخ لهذا العصر” (هكذا علم الأزهر الأمة – ص: 104 و105).
ومن الملاحظ أن أكثر الناس دفاعًا عن الدولة العثمانية أُناس ينتسبون إلى الأزهر الشريف، ويوظفون هذه النسبة لإضفاء شرعية على الأكاذيب التي يروجونها حول ما يسمونه “فضائل الحكم العثماني”، ولو قرأ هؤلاء التاريخ لأدركوا أن النكثة الفكرية وعصر الاضمحلال العلمي الذي عاشه الأزهر كان سببه فتك الأتراك به والتنكيل بعلمائه والقبض على مفكريه وزعمائه.
يقول المؤرخ الكبير محمد عبد المنعم الخفاجي: “كان للغزاة العثمانيين إجراءات للقضاء على الحركة الفكرية في مصر بسبب أن ازدهارها الفكري كان في عصر السلاطين المماليك، وكانت قوة مصر بعد سقوط الدولة العباسية في المشرق، والأندلس في المغرب قد بلغت ذروتها عسكريًّا، وعلميًّا في عصر المماليك، وأدرك العثمانيون أن مصر درة العالم الإسلامي يجب أن تخضع لهم، ولو بإضعافها، وتغيير وجهها الحضاري، وتحطيم كيانها الثقافي الذي كان يتمثل في الأزهر؛ ليتسنى لهم التوسع في غيرها من البلاد؛ اتخذ العثمانيون من الإجراءات:
1) تجريد مصر الإسلامية من ذخائرها النفيسة من الآثار، والكتب، وحمل كل ذلك إلى القسطنطينية.
2) القبض على العلماء الأعلام، والزعماء، وقادة الفكر وبعثهم جميعًا إلى تركيا، وهكذا انهار صرح الحركة الفكرية الإسلامية، وتضاءل شأن العلوم والفنون، وانحط معيار الثقافة” (الأزهر في ألف عام – ج 1، ص: 116).
وظهرت نتائج الغزو العثماني سريعًا؛ إذ فقد الأزهر معها شخصيته العلمية، نتيجة لفقدانه كبار علمائه وزعمائه ومفكريه، ونتيجة أيضًا للسطو على مؤلفاتهم التي كانت تُشكل عقلية طالب أزهري يصبو إلى التجديد ويمقت الجمود والتقليد.
يقول الدكتور محمد البهي: “وعاش الأزهر في تدهور وهزال، واستكان علماؤه، وظنوا أنهم لا مطمح لهم في الاجتهاد، وركنوا إلى التقليد، وفترت همتهم في التأليف، وانعزلوا عن قضايا الناس بعد أن كانوا ملتحمين، واستفرغوا همتهم في شرح ألفاظ الكتب، وكتابة الحواشي من الناحية اللغوية، وصرفوا أذهانهم عن التفكير والمنطق، فانصرفوا عن تدريس العلوم العقلية، ولم يتبق إلا هذا البصيص الشاحب من العلوم الدينية والعربية” (الأزهر تاريخه وتطوره: ص 224).
ويرى أحمد فتحي عبد الرحمن حجازي، أن آثار ما فعله العثمانيون ظهرت سريعًا على شخصية الأزهر: “وكان من آثار ذلك أن انصرف الأزهر في هذه الحقبة المُظلمة عن دراسة العلوم الرياضية، والعقلية، ووُجِد فيه من ينادي بتحريمها؛ وهكذا بدت بوادر الانحلال في الأزهر، وانقطعت صلته بماضيه الزاهر، ووقفت حركة التفكير العلمي” (هكذا علم الأزهر الأمة – ص: 105).
ويُحمل الشيخ عبد المتعال الصعيدي، سياسات الغزو العثماني لمصر المسئولية وراء ضعف الأزهر؛ إذ يقول: “أخذ الأزهر في الضعف منذ استولت الدولة العثمانية التركية على مصر، فلم يأت عليه القرن الثاني عشر الهجري حتى كان قد انقطعت صلته بماضيه المجيد، ولم يبق فيه وجود لسلفه الصالح الذي كان يُعنَى بالعلوم على اختلاف أنواعها، ولا يفرق في هذا بين ما يُسمى علوم الدنيا وما يُسمى علوم الدين” (تاريخ الإصلاح في الأزهر – ص: 9).
ويؤكد المؤرخ الكبير محمد عبد المنعم الخفاجي، أن الغزو العثماني كان مسئولًا عن انهيار الحركة الفكرية في مصر كلها: “وانهار صرح الحركة الفكرية في مصر، كما انهارت عناصر القوة والحياة في المجتمع المصري، وتضاءل شأن العلوم والآداب، وانحطَّ معيار الثقافة، واختفى جيل العلماء الأعلام الذين حفلت بهم العصور السالفة” (الأزهر في ألف عام – ج 1، ص: 118).