رحل الرئيس الأسبق حسني مبارك بعد أن حكم مصر 30 عاما في فترة هي الأطول في العصر الحديث وإن كان يأتي بعد القذافي وعلي عبدالله صالح رئيسا ليبيا واليمن الراحلين .. جنازة مبارك أيقظت في ذهني كيف أعدم الليبيون القذافي في ماسورة كالفئران وكيف تباهي اليمنيون برأس علي صالح وخلع العراقيون أحذيتهم لضرب تمثال صدام وكيف هرب زين العابدين إلي السعودية خوفا من قومه .. شعور المصريين في جنازة الأربعاء الماضي يشي بالكثير عنا .. نحن شعب “كلاس” مقارنة بمن حولنا .. نختلف ونتراشق ونهجو ونمدح لكن جيناتنا الحضارية تظهر في أوقات ما .. لامعة زاهية .. نحن دمعة تسبقها ضحكة .. فعندما خرج آخرون بنعالهم أو سيوفهم .. أخرجنا نحن قلوبنا ودموعنا ملآت ماقينا .. المصريون تسبق قلوبهم حناجرهم .. قماشة تانية..
في هذه المساحة التي أعتز بها أذكر بعض تصريحات سمعتها منه تعليقا علي اتهامات تطوله الآن وطالته في فترة حكمه , ولكنه كان يرفض كشف أسرار رأي في اعتقاده أنها ستزيد الاحتقان بين فئات المجتمع .. وياليته تكلم..
الاختلاف حول الزعماء طبيعي فهم بشر وليسوا ملائكة .. غير أن مشكلتنا في مصر أننا نؤرخ بالعواطف .. لكني أعتقد أن مبارك هو أول حاكم مصري لا يخافه المصريون وأنهي ظاهرة عبادة الحكام وتقديس الأشخاص فقد كان الباب مفتوحاً علي مصراعيه لهجائه في الصحف الحزبية والمستقلة وصدرت كتب ترفضه في عهده مثل كتاب الأهالي الشهير “لماذا نقول لا لمبارك”..
أحصي هنا عددا من التصريحات تتعلق بقضايا هامة قالها لي في أكثر من حوار تليوني وأزعم أنه كانت هناك مساحة من الكيمياء بيننا .. قلت له يا ريس تعديل الدستور يلقي معارضة في الرأي العام ويقولون أنه لتوريث جمال وكان عليك أن تغادر في 2005 .. قال “في 2005 كان مشروع الشرق الأوسط الكبير يتبلور وكوندليزارايس وبوش يضغطان لتوطين الفلسطينيين في سيناء تحت مزاعم كثيرة وبدأوا في تحريك الأصدقاء ضدي .. استعنت بشيراك وميركل وبيرلسكوني وطبعاً روسيا والصين واستطعت بحكم علاقات صداقة تشكيل معارضة دولية قوية لإقامة إمارة إسلامية علي حدودنا .. لم أكن أستطيع المغادرة في هذا التوقيت .. كنت أبذل جهداً كبيراً للوقوف أمام المد الأمريكي .. أما التوريث فهو المسمار الذي يريدون به نسف الجمهورية والنار التي أعيشها كل 24 ساعة لا يمكن أن ألقي فيها ابني.. واضاف دستور 1980 كان متفصل علي جمال لو كنت أريد فقد كان انتخاب الرئيس فيه استفتاء لايتطلب سوي ثلث أعضاء البرلمان..
بعدها في نوفمبر 2007 سألته عن الاتهام الموجه له بأن الإخوان ظهروا وتاجروا واغتنوا في عهده .. ببساطة أجاب الإخوان موجودون من 1928 وعبدالناصر حل الأحزاب كلها وأبقي علي الإخوان ثم كان الصدام بعد حادث المنشية في 1954 .. ثم ظهروا في عهد الرئيس السادات وتحكموا أو تمكنوا إلي ان قتلوه .. أنا أحاكم الإخوان أمام محاكم عسكرية في مصر لأن القضاء المدني بصراحة “بيخاف” من تهديداتهم .. هدفي أن يظلوا تحت عيني في القاهرة .. مكتب الإرشاد لو انتقل خارج مصر وانضم للتنظيم الدولي في الخارج حيشكلوا تهديداً خطيراً لمصر .. وأضاف الإخوان لو حكموا لن يسهل نزعهم إلا بثورة قوية وأنا في مرحلة تهدئة البلد لمن سيتولي بعدي ..
عدت أسألة يا فندم الكلام عن أن تعديل المواد 76 , 77 في الدستور ما هي إلا لتوريث الحكم .. ظهر عليه الضيق وقال بنبرة حادة قاسية “شوف ابني خبرته الأساسية في البنوك ولم يفاتحني في الموضوع نهائيا ولعلمك كان رافضا لدخول الحزب الوطني لولا ضغوط البعض مؤكدا أن من أطلق الشائعة صدقها وصار يروج لها” .. سألته عن مزاعم تزوير الانتخابات الرئاسية عام 2005 فغضب وقال هذا طعن في القضاء الشامخ لاأقبله..حكم التزوير كان قاطعا ضد ايمن نور وصممت أن يكمل الانتخابات قبل العقوبة..جاء ثانيا بعد نعمان جمعه رئيس أقدم الاحزاب..التقطت الخيط وسألته يقال أن الحزب الوطني يبتلع الحياة السياسية..أجاب ليس هناك تضييقا عليهم ..الا تري صور مؤتمراتهم الحاشدة ..لقد تحالف الوفد والاخوان في التسعينات مرتين ودخل البرلمان 90 منهم ثم ألغت المحكمة الدستورية الانتخاب بالقوائم..
قام الرئيس الأسبق بزيارتين لأمريكا عام 2009 ولم أكن بها لزواج ابنتي وفي 2010 قام بالزيارة الشهيرة التي اجتمع فيها مع أوباما وأبومازن ونيتنياهو لإقامة دولتين إحداهما فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية والثانية إسرائيل .. سألته بعد العودة لأننا لم نكن علي طائرته .. أظن يا ريس الآن بدأ حلمكم يتحقق في إقامة الدولة الفلسطينية .. ضحك وقال هل تصدق الأمريكان واليهود .. أوباما مثل بوش .. ما هي إلا وجوه .. أتتذكر زيارة أحمد نظيف لأمريكا في 2005 قلت نعم .. فوجئت أن بوش أدلي بحديث للسي بي إس عقب زيارة نظيف قال فيه “أمريكا حذرة جدا في التعامل مع الإخوان لأن لها تاريخ من العمل السري الإرهابي .. لكن لو انفتح الباب أمامهم ومارسوا العمل السياسي العلني سيتحقق الاستقرار للأوضاع السياسية بمصر وبالتالي الشرق الأوسط كله .. وختم مبارك قائلا إذا زاد تعاون واشنطن مع الإخوان فلن يخطفوا مصر فقط ولكن عدة بلاد عربية مجاورة .. وفجر القنبلة قائلاً “مشروع الشرق الأوسط له وجهان إسلامي وإسرائيلي” .. والحوار مع زعيم بطول الزمان لا ينتهي وكنت أتمني أن يقرأ الناس الأخطار والتهديدات التي واجهها , لكنه فضل سياسية الاحتواء والتوازن .. ونكمل لو كان في العمر بقية..