ولا شك أن تفشي فايروس كورونا بهذه الصورة المرعبة أدى الى حدوث شلل شبه تام في مجمل حركة الاقتصاد العالمية، فضلًا عن عموم قطاعات الاقتصاد الوطني في البلدان التي ضربتها الجائحة،
وهو ما أدى الى فقدان ملايين الأشخاص لوظائفهم، وارتباك الأوضاع الحياتية لملايين أخرى، الى جانب تعطل مختلف المؤسسات التعليمية والتربوية ومؤسسات ذات اختصاصات أخرى متنوعة.
وأكثر من ذلك، أحدث تغيرات دراماتيكية سريعة وغير مسبوقة في انماط الحياة لمختلف المجتمعات، مع استمرار تلك التغيرات بوتيرة متصاعدة ومتسارعة ارتباطا بالاهتزازات الاقتصادية العنيفة، وسرعة تفشي وانتشار الجائحة، والعجز عن التوصل الى معالجات صحية ناجعة تساهم في الحد من ذلك الانتشار السريع.
وفي خضم تلك الأوضاع والظروف المضطربة الى حد كبير، لوحظ أن هناك أطرافًا تعاطت مع كورونا من زاوية اقتصادية سياسية، وراحت تحاول تحقيق مكاسب على حساب الاخرين، وتنتقم من خصوم واعداء لها في ذروة الكارثة، بينما تعاطت أطراف أخرى مع الكارثة من زاوية انسانية، واضعة كل الاعتبارات والحسابات والمصالح السياسية جانبا.
تحوّل وباء «كورونا» المحلي في الصين إلى جائحة عالمية أثرت فيه الحضارة الحديثة التي كان أحد تجلياتها الكبرى انتشار وسائل النقل بشكلٍ غير مسبوقٍ في التاريخ البشري، كما أثرت الحضارة الحديثة بالمقابل في نشر الوعي بالفيروس عالمياً،
وأدخلت طرق البحث عن علاجٍ إلى تعاونٍ دولي على المستوى الصحي، على مستوى الدول كما على مستوى الأفراد كانت المعلومات التي تبني الوعي السليم في أفضل طرق التعامل مع الفيروس، تأتي عبر منتجات لهذه الدعوة أن ترفع حجم التعاون الدولي لمستوى غير مسبوقٍ، وتسرّع في إيجاد الحلّ.
لقد غيّر هذا الفيروس الخطير العالم بالفعل، وسيستمر في تغييره بشكل أعمق في المستقبل، وسيعيد ترتيب أولويات العالم من جديد، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وغيرها من المجالات،
وهو أمرٌ لا يمكن إنكاره وسيكون السباق مستقبلاً وفق الأولويات الجديدة للعالم الجديد، عالم ما بعد «كورونا». الحضارة الحديثة، وتدخل في جيب كل فردٍ حول العالم.
« كورونا… «كساد اجتماعي» وإحباط طويل المدى
تعتبر التبعات الاجتماعية لكورونا أكبر حجما وأعمق وأدوم أثرا من تبعاته الاقتصادية، خاصة في المجتمعات الغربية. ففي تلك المجتمعات التي يعيش أفرادها حياة ناعمة منضبطة ومستقرة، ولم يتعرضوا لتقلبات الحياة، يصبح الفرد أكثر هشاشة من الناحية النفسية.
ومع طغيان النزعة الفردية في هذه المجتمعات، تضعف «المناعة النفسية» للفرد والمجتمع، وتظهر العديد من الأمراض النفسية والاجتماعية. كما أن تفاقم تلك الجائحة بهذا الشكل الكبير والسريع في دول الغرب المتقدم، لم يثر الذعر والإحباط لدى الأفراد فقط، بل لدى الحكومات والقيادات.
أنه مع كورونا والحَجْر الصحي وتزايد حالات البطالة، فقد أصبح القلق، والإحباط، ونوبات الهلع، والاكتئاب، والميول الانتحارية، شائعة جدًا أثناء الإغلاق. وتتوقع بعض التقارير أن يكون ضحايا الانتحار بسبب جائحة كورونا أكبر بكثير من ضحايا الفيروس نفسه.
وأن تزايد معدلات الانتحار في الغرب، ليس بين كبار السن فقط، بل بين الصغار أيضا كما أشارت صحيفة الجارديان. وترتبط تلك التقارير بين الآثار الاقتصادية السلبية وتزايد معدلات الانتحار؛ وترى أنه في حالات كانت فيها الضغوط الاقتصادية أخف بكثير مما هي الحال في ظل كورونا، كانت معدلات الانتحار عالية جدا
وهو ما يجعل من الانتحار بسبب جائحة كورونا مشكلة كبرى متوقعة. كما أن تلك الجائحة قد زادت من الشعور بالخوف؛ وهو ما أدى إلى ارتفاع بنسبة 73,0% في طلبات شراء السلاح الشخصي في شهر مارس الماضي مقارنة بنظيره من العام الماضي
من ناحية ثانية، وفى ظل هذه الظروف الاجتماعية، من المتوقع أن تنخفض معدلات المواليد، المنخفضة للغاية أصلا، في أوروبا والولايات المتحدة. كما أن تلك المناطق ستكون أقل إغراءً للمهاجرين عما كانت عليه قبل كورونا؛ وهو ما يعنى أنه سيكون هناك تناقص سكاني حاد في تلك المناطق، وهو ما سوف يكون له تبعات اقتصادية حادة في هذه الدول.
كورونا والاقتصاد… بطالة وركود وديون
يقول تقرير الأمم المتحدة الصادر نهاية مارس الماضي، بعنوان «المسئولية المشتركة، التضامن العالمي: لمواجهة الآثار الاجتماعية والاقتصادية لـCOVIDــ 19»، أن حائجة كورونا سيكون لها آثار هائلة وطويلة المدى على الاقتصاد العالمي واقتصاد الدول على السواء.
وقد انتهى صندوق النقد الدولي للتو من إعادة تقييمه للنمو المتوقع لعامي 2020 و2021، ليقول بأن العالم قد دخل مرحلة كساد أسوء من تلك التي شهدها العالم عام 2009.
ويوضح تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، بتاريخ 16 مارس 2020، بعنوان «هكذا سوف يدمر كورونا الاقتصاد»، أن فيروس كورونا يهدد بإحداث مضاعفات حادة في اقتصاد عالمي مريض ومثقل بالديون.
ومع احتمال استمرار ضعف، أو توقف، التدفقات النقدية للشركات والدول، نتيجة لجائحة كورونا، ستصبح العديد من هذه الشركات والدول عاجزة عن سداد أقساط الفائدة، فضلا عن التداعيات الخطيرة المصاحبة؛ كانخفاض الإنتاج وارتفاع معدلات البطالة والركود الاقتصادي. وهو ما بدأت ملامحه في الظهور بانخفاض أسعار النفط إلى مستوى متدن للغاية يهدد شركات النفط التي تسعى لسداد ديونها؛ ويهدد الدول المصدرة للبترول التي تعتمد على عوائده في شراء احتياجاتها.
ويؤكد التقرير أنه كلما طالت مدة جائحة كورونا، كلما زاد احتمال حدوث أزمة مالية أخطر بكثير من تلك التي شهدها العالم عام 2008. وفى ضوء هذا الوباء النادر الذى لم يستطع العلم بعد أن يفهمه بصورة كاملة، ناهيك عن إيجاد علاج له،
فإن تبعات هذه الجائحة ستستمر لفترة طويلة. هذا الغموض حول مدة تأثير هذه الجائحة يضيف عبأً اقتصاديا آخر، يمثل في تخوف الشركات والدول من ضخ استثمارات ضخمة في مستقبل غير واضح.
وفى تقرير للإندبندنت العربية بتاريخ 25 مارس 2020، ترى الصحيفة بأن كورونا يدفع بشركات ضخمة نحو الإفلاس نتيجة لانخفاض الارباح وتزايد الديون. ويتوقع التقرير أنه مع تفاقم الأزمات المصاحبة لانتشار فيروس كورونا المستجد، تحوّلت الأزمة من مجرد كساد وركود عنيف إلى أزمة أكبر تتمثل في انهيار شركات ضخمة وإعلان إفلاسها.
كورونا… من «العولمة الاقتصادية» إلى «اشتراكية المرض»
تشير العديد من التقارير إلى أن أزمة كورونا لم تثبت فشل العولمة فحسب، بل أثبتت مدى هشاشتها وزيف الكثير من الحجج التي سيقت لتبريرها. فمع بداية الوباء، سارعت جميع الدول التي روجت للعولمة، واستفادت منها اقتصاديا واستراتيجيا، إلى الانغلاق إلى الداخل والحد من السفر وإغلاق حدودها، وتخزين الإمدادات الطبية. ان «كورونا يقتل العولمة التي نعرفها» وأن هذا الوباء يعتبر هدية للقوميين؛ وتتوقع أن يكون له آثار طويلة المدى على حرية الحركة للأفراد والبضائع.
من ناحية ثانية، ترى بعض التقارير المهمة أنه بينما كانت العولمة تخدم أنظمة رأسمالية دولية على حساب الفقراء في العالم الثالث، فإن كورونا قد تخطى تلك الفوارق الطبقية وأوجد ما يمكن تسميته بـ«اشتراكية المرض»؛ بحيث أصبح الفقير والغنى معرضين بنفس الدرجة لهذا الوباء الذى أصبح عابرا للطبقات الاجتماعية بكل درجاتها وتصنيفاتها هذا الوضع قد جعل الجميع متساويين، من حيث العجز، أمام مواجهة هذا الوباء.
كورونا والعالم النامي… «فرصة نادرة»
في ضوء هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى والمتسارعة التي أحدثها وباء كورونا، تتشكل عالميا ظاهرتان مهمتان لهما أثر كبير على العالم النامي، وهما:
تصاعد صراع القوى الكبرى على قيادة العالم، وانشغال تلك القوى بنفسها وانغلاقها، إلى حد كبير، نحو الداخل.
تشير العديد من التقارير إلى أن صراع القوى الكبرى قد ازدادت حدته بعد هذا الوباء؛ نظرا للتفاوت الكبير في حجم الضرر المتوقع أن يلحق بهذه القوى، وفى مدى قدرة المجتمعات على تحمل تبعات هذه الأضرار، نظرا للتفاوت الكبير في طبيعة نظمها السياسية والاقتصادية.
وترى تلك التقارير بأن من يخرج أولا من محنة كورونا سيتمكن من تحقيق نقاط هائلة على سلم السيطرة. وهو ما ستتبدل معه الكثير من التحالفات وظهور تكتلات اقتصادية وسياسية جديدة.
من ناحية ثانية، فقد جعل كورونا تلك القوى مشغولة بنفسها، إلى حد كبير. كما أنه قد قلص تطلعاتها وقدراتها الاستعمارية؛ فبجانب انشغال الجيوش في المشاركة في عمليات مجابهة الوباء داخليا، فإن انتشار الوباء داخل الجيوش، وخاصة على حاملات الطائرات، يحد بشكل كبير من سطوتها العسكرية الخارجية.
ويكفى هنا أن نشير إلى ما قامت بهد العديد من هذه القوى من سحب قواتها من الخارج. وعليه، فمن المتوقع أن تتقلص الأطماع الاستعمارية للقوى الكبرى لصعوبة تحقيقها. كما أنها قد صارت أكثر حاجة إلى التعاون لتحقيق نمو اقتصادي أفضل. كما أن الخيار العسكري في حل نزاعاتها، أو تحقيق أطماعها، قد صار أبعد مما كان عليه في أي وقت مضى.
وأخيرا، فإن الفجوة التنموية بين العالمين، المتقدم والنامي، قد بدأت في التناقص نتيجة لانخفاض انتشار كورونا وانخفاض كلفته الاقتصادية في العالم النامي مقارنة بالعالم المتقدم. هذه المتغيرات توفر فرصة نادرة لصياغة نظام عالمي جديد أكثر عدلا؛ إذا إن التفاوض في هذه الحالة لن يكون بين منتصر ومهزوم، كما كانت الحال عند صياغة النظام العالمي الحالي، بل سيكون بين مهزوم ومهزوم جدا. هذا الوضع يوفر فرصة نادرة للعالم النامي للضغط لصياغة نظام دولي أكثر عدلا من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية.
الكثير من الكوارث أخطر من «كورونا»، فالحروب الحديثة بأسلحتها الفتاكة أخطر من «كورونا»، حتى من دون استحضار الأسلحة الكيماوية والنووية.
ولكن هل هذا يحدّ أو يخفّف من خطر «كورونا»؟ بالتأكيد لا، ففي النهاية كل ما يقتل الناس أو يهدد صحتهم خطيرٌ، والمقارنة هنا بين السيئ والأسوأ من حيث النتائج والأثر وبالإحصائيات والأرقام، فلا يقلّل خطرٌ من خطرٍ آخر، وإنما هي المعرفة التي تعيد ترتيب الأولويات.
حسب الخبرة البشرية، فأزمنة الأوبئة على قبحها الشديد لا تستمر طويلاً، بل تحصد ما تحصده في أشهرٍ معدودة أو سنيات قليلة ثم تنتهي وقد يحدث غيرها من الأوبئة في فتراتٍ متباعدة، ومع قلة المعلومات عن فيروس «كورونا المستجد»،
إلا أن المؤشرات تؤكد ضعفه عن بدايته الشرسة والبعض يتحدث عن موجة ثانية له ستأتي مستقبلاً، وعلى كلا الحالين فنحن لم نقترب بعد من نهاية كاملة له ولا اختراع دواء شافٍ ولا لقاحٍ فاعلٍ،
اضطراب المعلومات عن الفيروس الخطير له عدة أسباب مختلفة وتدخل فيه عدة معطيات متباينة، فعلى سبيل المثال، الفيروس نفسه له مستويات متغيرة ويمرّ بتحولاتٍ لم تتوقف بعد وليس على درجة واحدة من الخطورة، ودرجة مناعة البشر المصابين به مختلفة، وطبيعة البيئة التي ينتشر فيها تؤثر في قوته، هذا من جهة،
ومن جهة أخرى فانتشار أجهزة الفحص وقدرة الدول على توفيرها يؤثران بشكل واضح في قياس التفشي والانتشار، وبالتالي فالاستنتاجات السريعة غالباً ما تكون خاطئة.
ثمة سباق دولي محمومٌ على إيجاد الدواء واللقاح لهذا الفيروس من دولٍ وشركاتٍ عملاقة، تسعى جميعها لحيازة قصب السبق في العثور على الترياق الشافي الذي ينهي هذا الكابوس الجاثم على صدر البشرية، لأسبابٍ يختلف بعضها عن بعض، ويقف على رأسها السبب التجاري البحت الذي يُسيل لعاب كل الشركات العاملة في هذا المجال، ومن هنا تأتي أهمية دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لجعل الدواء مجانياً عند اكتشافه حول العالم،
ويمكن في مثل هذه الأجواء المضطربة دولياً تتخبط الآراء وتتصادم الرؤى، ويكون المستقبل أفضل لمن يستطيع التوازن في لحظة شديدة الارتباك من التاريخ، حيث يسيطر على غالبية الناس الخوف الشديد الذي قد يصل لمرحلة الرعب المرضي لدى البعض في مقابل المستهترين الذين لا يفرقون بين الخطر الحقيقي، مثل فيروس «كورونا»، والأخطار المتوهَّمة فيلقون بأنفسهم، ومن يحبون إلى التهلكة.
الواجب في مثل هذه اللحظات المرتبكة من التاريخ تقدير الأمور بقدرها، بحيث يلتزم الجميع بتوجيهات المؤسسات الرسمية المعنية في كل مكانٍ حتى في المنازل الخاصة، وبين أفراد العائلات والأقارب بخوفٍ طبيعي يناسب حجم الخطر، ولا يتجاوزه إلى رعبٍ عامٍ يخلق الفوضى والمشكلات الاجتماعية والأمنية.
الحروب وصراعات الهيمنة والنفوذ وصراعات الاقتصاد وأسواق الطاقة وغيرها الكثير لم تتوقف، منتظرة الخلاص من فيروس «كورونا»،.
المقصود أن العالم لم ولن يتوقف عن الصراعات السياسية وغيرها، وأن من يتوقف هو من يخسر بعد انقضاء الجائحة وانحسار الوباء، لم يزل الخصوم يكيد بعضهم لبعض، ولم تزل الدول ترعى استراتيجياتها وتضمن الحفاظ على مصالحها.
أخطر من «كورونا» انتشار المجاعات والفقر الذي سينتج عن استمرار إغلاق الاقتصاد ومنع التجول حول العالم، أخطر من «كورونا» انتشار الفوضى وفقدان الأمن والأمان، أخطر من «كورونا» أشياءُ كثيرة ستتضخم وتكبر إن استمر العالم مغلقاً لفترة طويلة.
يسعى العالم إلى التخلص من الفيروس، فإن لم ينجح فهو يبحث عن أفضل السبل لتقليل خسائره والحدّ من تأثيراته على الدول والمجتمعات والأفراد، وسينجح في الوصول إلى هذا الهدف قريباً، فالحياة ستستمر على الرغم من كل شيء.
لو وقف التاريخ شاهداً، فإنه سيكون أصدق الشهود حين يؤكد أن البشرية تجاوزت كل التحديات التي واجهتها من قبل واستمرت، وفي موضوع الأوبئة والجوائح تحديداً فمنذ بدء البشرية وإلى اليوم لم يوجد فيروس واحدٌ لم تستطع البشرية تجاوزه،
ويكفي استحضار أوبئة القرن المنصرم فقط، فمع تطورها وانتشارها وآثارها المهلكة، فإن البشرية تجاوزتها بطرقٍ مختلفة واستمرت وأخذت في مزيدٍ من التطور والترقي،
وهو ما سيحدث مع فيروس «كورونا المستجد» دون شكٍ. هذا بعض مما يقوله «كورونا» لسكان الأرض. سمه ما شئت، فقد اختلفوا على أصله وفصله. لم يعد لديهم متسع من الوقت، هربوا كلهم إلى بيوتهم، وسارعوا إلى مختبراتهم، يبحثون عن سلاح يقاومونه به، لم تنفعهم أسلحتهم النووية، وطائراتهم المقاتلة، وحاملات طائراتهم وصواريخهم العابرة للقارات.
إنه الصراع بين بكين وواشنطن على قيادة العالم. كلاهما تتهم الأخرى بنشر الفيروس. الأولى تقول إنهم العسكريون الأمريكيون الذين شاركوا في بطولة العالم العسكرية في مدينة ووهان، التي انتشر منها الفيروس، وأنهم كانوا حملوا الفيروس من مختبر أمريكي للحرب البيولوجية في أفغانستان.
الثانية، واشنطن، تقول إن الخفافيش التي يأكلها الصينيون هي السبب، ثم عادت وقالت، إن الفيروس ربما تسلل من أحد المختبرات البيولوجية الصينية. لكن مع التزايد السريع لعدد الضحايا والوفيات، خاصة في إيطاليا وإسبانيا ومعظم دول أوروبا، قبل أن تصبح أمريكا، وخاصة نيويورك، في المقدمة،
لم يعد المهم من السبب، بل كيف نوقف زحف «الكورونا»، بعد أن أصبح عدد الوفيات مثل حالة الطقس في نشرات الأخبار، وبات أكثر من نصف أهل الأرض سجناء في بيوتهم.
المختبرات في العالم، تعمل على إيجاد عقار للفيروس.
وهذه ليست المرة الأولى التي يضرب فيها فيروس الإنسان، فيقتل الآلاف، ويدمر الاقتصاد، ويوقف المصانع، ويتسبب في أزمات ركود عالمية.
فقد حدثت أول أزمة اقتصادية عالمية عام 1637، وهي ما عرفت باسم أزمة التوليب، التي أدت إلى أول انهيار لسوق الأسهم في التاريخ، كما تقول بعض المصادر. حدثت الأزمة في فبراير 1637، في هولندا، بعد مضاربة على أسعار زهور التوليب، حيث وصلت الزهور من القسطنطينية، قبل بضع سنوات من ذلك، وكانت شائعة جداً لدى الطبقة البرجوازية والأرستقراطية في أوروبا. وكانت تباع بموجب عقود.
وفي تلك السنة، تجاوزت العقود الكميات المتوفرة، فانهارت الأسعار…، كانت الزهرة الواحدة تتداول بمبلغ يعادل 20 ضعف الراتب السنوي للعامل، حيث وصل سعرها إلى 4000 فلورين، مع العلم بأن الدخل المتوسط للفرد حينها لا يتعدى 150 فلورين.
عام 1929، حدث ما عرف بالكساد العظيم، لكن أحدث أزمة هزت الاقتصاد العالمي، فهي ما عرف بأزمة الرهن العقاري عام 2008، في أمريكا، التي أدت إلى انهيار سوق الأوراق المالية في وول ستريت، أهم سوق للأوراق المالية في العالم. وسرعان ما انتشرت الأزمة إلى معظم أنحاء العالم. تماماً، كما يحدث الآن بسبب فيروس «كورونا». فعدا عن أرواح البشر، فإن كل يوم يمر، تخسر اقتصادات دول العالم مليارات الدولارات والوظائف.
فالأمريكيون وحدهم خسروا قبل أيام مليوني وظيفة، ما يعني مليوني عاطل جديد عن العمل، فما بالك بالدول الفقيرة، التي تعاني أصلاً من تدني نسب النمو، وارتفاع معدلات البطالة؟.
عالم ما بعد «كورونا» ليس كما قبله، عالم جديد، لم تتضح معالمه، ولا إلى أين يتجه!
شهد هذا العام أحداثًا مفصلية مثَّلت نقطة تحول تاريخي في مسيرة العولمة، بدءًا من تراجع القيادة الأمريكية، وتنامي ظاهرة الشعبوية في ديمقراطيات العالم، إضافة إلى صعود نموذج اقتصادي وسياسي وتكنولوجي صيني بديل، وتراجع روسي؛ مما دفع النظام الدولي لمواجهة “الأزمة العالمية الأولى في الركود الجيوسياسي”.
لقد وجَّه تفشي فيروس كورونا المستجد ضربة قوية للتدفق العالمي للبشر والسلع والخدمات، مما جعل العولمة تحت الحصار. كما أجبر الوباء جميع الدول على التوجه نحو الداخل، مما أدى إلى تسريع عملية “الركود الجيوسياسي” واضمحلال العولمة.
المخاطر العشرة الأكثر تأثيرًا في عالم ما بعد كورونا
وفي ضوء ذلك، قدَّمت الجمعية الأوروبية الآسيوية “مجموعة أوراسيا” Eurasia group في أول العام الجاري تقريرًا تناول المخاطر العشرة الأكثر تأثيرًا في التفاعلات الدولية، ثم قامت بتحديثه في شهر مارس الماضي أخذًا في الاعتبار انتشار جائحة كورونا وتداعياتها على العالم بأسره. وفي هذا الإطار، صنَّف التقرير المخاطر -وفقًا لدرجة خطورتها- إلى: مخاطر منخفضة الخطورة بشكل كبير، ومخاطر منخفضة الخطورة، ومخاطر ثابتة، ومخاطر مرتفعة، ومخاطر ترتفع خطورتها بشكل كبير، وفيما يلي عرض لهذه المخاطر.
أولًا- الانتخابات الرئاسية الأمريكية:
تُعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة المقرر عقدها في نوفمبر المقبل، بمثابة اختبار غير مسبوق للمؤسسات الأمريكية، ولذلك جاءت ضمن فئة المخاطر المرتفعة، ويرجح الكثيرون أنها ستؤدي إلى نتيجة غير شرعية؛ فإذا فاز الرئيس “دونالد ترامب” وسط اتهامات بالمخالفات، فستكون النتائج موضع خلاف، وفي حالة خسارته لا سيما إذا كانت نتائج التصويت متقاربة، فستكون النتائج أيضًا خلافية، وفي كلتا الحالتين ستشهد البلاد شهورًا من الدعاوى القضائية وفراغًا سياسيًّا.
ويشير التقرير إلى أنه مع استمرار نهج الإدارة الأمريكية الحالي في التعاطي مع أزمة كورونا، فستستمر الانتقادات، وسوف يميل “ترامب” إلى إثارة الشكوك حول نزاهة الانتخابات، وذلك فضلًا عن احتمال إطلاق شائعات صحية حول المرشح الديمقراطي “جون بايدن”.
ويُضاف لما سبق، احتمالات الركود الاقتصادي، وتفاقُم التوترات الطبقية، مع عدم قدرة العديد من العمال على العمل بسهولة من المنزل، واحتمالات اندلاع أعمال عنف واضطرابات من أجل الحصول على الرعاية الطبية. ويرجح التقرير أن تكون الفترة التي تسبق الانتخابات الأكثر انقسامًا في التاريخ الأمريكي الحديث.
وقد يسعى أحد المرشحين إلى استغلال عنصر القلق الاجتماعي للدعوة إلى تأجيل التصويت، أو الاقتراع عبر الإنترنت، وقد يتسبب اللجوء إلى التصويت الإلكتروني في تعطيل العملية، فكل ما يتطلبه الأمر هو خلل فني للتشكيك في نتائج التصويت،
وبعدها يتم الطعن في النتائج، وبالتالي فإن من سيفوز سيفتقد السلطة الكاملة في نظر الأمريكيين والمجتمع الدولي، كما قد يعجز الكونجرس عن القيام بمهامه بفاعلية بسبب العمل عن بُعد. وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، سوف يتسبب الفيروس في تحوُّل الولايات المتحدة إلى الداخل، وزيادة عزلتها عن العالم، وتراجعها عن مركز القيادة العالمي.
ثانيًا- فصل سلاسل التوريد:
تسبب فصل سلاسل توريد التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين في تعطيل التدفقات الثنائية للتكنولوجيا والاستثمار، لذلك جاء ضمن فئة المخاطر التي ترتفع خطورتها بشكل كبير. ويرجح التقرير امتداد الفصل ليشمل قطاعات اقتصادية أخرى، ولن يؤثر هذا التوجه بالسلب على قطاع التكنولوجيا العالمي الذي يبلغ 5 تريليونات دولار فقط، ولكنه سيؤثر أيضًا على الصناعات الأخرى، وهو ما قد يتسبب في خلق فجوة تجارية واقتصادية وثقافية عميقة، تهدد باتساع ما أطلق عليه التقرير “جدار برلين الافتراضي” بين الطرفين.
وقد سرّع انتشار الوباء من الفصل ليشمل قطاعي التصنيع والخدمات، مما أجبر العديد من الشركات على تبديل سلاسل التوريد، وإغلاق المرافق، ونقل الموظفين إلى قطاعات عمل مختلفة.
ويرجح التقرير أن تواجه الشركات خيارات صعبة حول نقل سلاسل التوريد بشكل دائم من الصين خوفًا من خطر الإفراط في تركيز الإنتاج هناك، مما سيرسخ من اتجاهات الفصل بين أكبر اقتصادين في العالم، وسيضع مزيدًا من التحديات أمام الدول لموازنة العلاقات مع كلا الجانبين.
ثالثًا- العلاقات الأمريكية الصينية:
سيتسبب الفصل في سلاسل التوريد بين الولايات المتحدة والصين في تفاقم التوترات بين البلدين، ولذلك جاءت أيضًا ضمن فئة المخاطر التي ترتفع خطورتها بشكل كبير؛ حيث يرجح التقرير أن يصبح الصراع أكثر وضوحًا حول قضايا تتعلق بالأمن القومي،
والتأثير والنفوذ العالمي، وسيستمر الجانبان في استخدام الأدوات الاقتصادية في الصراع كالعقوبات، وضوابط التصدير، والمقاطعة، كما قد تزداد المواجهة حول هونج كونج وتايوان والإيجور وبحر الصين الجنوبي.
وتنظر واشنطن وبكين إلى تفشي وباء كورونا باعتباره الجولة التالية في سباق تنافسهما الجيوسياسي، حيث يُلقي المسئولون الأمريكيون باللوم على بكين في التسبب فيما وصفوه بـ”الفيروس الصيني”، ويخشون من استخدام الدول لأموال الطوارئ التي يقدمها لهم صندوق النقد الدولي في سداد ديونهم للصين بموجب مبادرة “الحزام والطريق”. وفي المقابل ستوظف بكين نجاحها في احتواء الفيروس في الترويج لنموذج الحوكمة الصيني.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، سيواجه “ترامب” الانتقادات الموجهة إليه في إدارة أزمة كورونا بإلقاء مزيد من اللوم على الصين، وستؤدي التوترات المتصاعدة إلى مزيد من عدم اليقين بشأن تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري بينهما، وهو ما يشكك في إمكانية الانتقال إلى المرحلة الثانية. ويرجح التقرير أن عالم ما بعد كورونا سيشهد “حربًا باردة” جديدة بين الولايات المتحدة والصين.
رابعًا- الشركات متعددة الجنسيات:
ستواجه الشركات متعددة الجنسيات ضغوطًا جديدة من المسئولين السياسيين؛ حيث يعمل السياسيون على إدارة أزمات: تباطؤ النمو العالمي، واتساع فجوة عدم المساواة، وتصاعد التهديدات الشعبوية، والتحديات الأمنية الناتجة عن استخدام التقنيات الحديثة، وقد يكون ذلك على حساب الشركات متعددة الجنسيات،
إضافة إلى احتمال زيادة الضرائب المفروضة عليها، وفرض لوائح وإجراءات صحية، مما سيتسبب في زيادة تكاليف العمل، إضافةً إلى اضطرارها لتقصير سلاسل التوريد، وإدارة قوة عمل افتراضية.
لكن من ناحية أخرى، مع انشغال الحكومات بالأزمات الصحية، ستُتاح الفرصة للعديد من هذه الشركات لمساندة الحكومات المتعثرة، سواء من خلال مساعدة المسئولين في إجراء اختبارات فيروس كورونا، أو من خلال تطوير آليات العمل عن بعد، ولذلك جاءت ضمن فئة المخاطر الثابتة.
خامسًا- استمرار التوترات في الهند:
جاءت ضمن فئة المخاطر المرتفعة؛ حيث ألغى رئيس الوزراء “ناريندرا مودي” وحكومته الوضع الخاص لجامو وكشمير، وأقر تعديلًا لقانون “المواطنة” تسبب في تجريد 1.9 مليون شخص من جنسيتهم، كما أقر قانونًا للهجرة ربط مسألة الحصول على الجنسية بالهوية الدينية للمهاجرين.
وعلى الرغم من انتشار الاحتجاجات بمختلف أنواعها في جميع أنحاء الهند، يرجح التقرير عدم تراجع “مودي” عن سياساته، وقد يؤدي رد الفعل الحكومي القاسي إلى مزيدٍ من المظاهرات، مما قد يشجع قادة المعارضة على تحدي الحكومة المركزية، ويترك للحكومة مجالًا أقل للمناورة حول الإصلاحات الاقتصادية.
وأوضح التقرير أن مع ما تشهده الهند من كثافة سكانية تقارب ثلاثة أضعاف الكثافة السكانية في الصين، وضعف البنية التحتية لقطاع الرعاية الصحية والصرف الصحي؛ فإنها معرضة لانتشار فيروس كورونا.
وحتى الآن تعاملت الحكومة مع الأزمة بشكل جيد، لكن من المرجح زيادة التحديات في المستقبل، كما أن هناك خطرًا من استهداف بعض الأقليات بمعلومات خاطئة حول الفيروس، مما قد يُثير العنف الطائفي.
سادسًا- أوروبا أكثر استقلالًا:
جاءت ضمن فئة المخاطر الثابتة، حيث يرجح التقرير استمرار الاتحاد الأوروبي في السعي للدفاع عن استقلاليته في مواجهة الكتل الاقتصادية والسياسية المتنافسة. وفيما يتعلق بعامل التنظيم، سيواصل الاتحاد محاربة عمالقة التكنولوجيا في أمريكا الشمالية، وسيصبح أكثر حزمًا في تطبيق القواعد والتعريفات الخاصة بالتجارة. وفيما يتعلق بالأمن، سيحاول المسئولون كسر الحواجز عبر الحدود أمام التجارة العسكرية وتطوير التكنولوجيا، وستؤدي هذه الممارسات إلى مزيدٍ من الاحتكاك مع كل من الولايات المتحدة والصين.
وفيما يتعلق بأزمة كورونا، فقد تأخرت الحكومات الأوروبية -منفردة- في الاستجابة لها، وقد يدفع ذلك الاتحاد الأوروبي ليصبح أكثر تماسكًا، كما أن قيود السفر إلى أوروبا التي فرضها “ترامب” ستشجع الاتجاه نحو اتباع سياسة جيوسياسية أكثر استقلالية،
مما قد يتسبب في زيادة التوترات عبر الأطلسي، ولكن بالنظر إلى احتمالات الركود الاقتصادي خلال الأشهر القادمة، فإن الوباء سيخفِّف من حدة تلك السياسة العدائية، خاصة الموقف الأوروبي تجاه بكين.
سابعًا- الصِّدام حول التغيرات المناخية:
أكد التقرير أن ظهور فيروس كورونا المستجد تسبب في تحويل الاهتمام والتركيز العالمي عن قضية التغيرات المناخية، حيث سيسعى المستثمرون والشركات إلى التعافي واستعادة النمو، وبالتالي ستستخدم الدول التدابير المالية المتاحة للتخفيف من تداعيات الفيروس، وهو ما سيحد من الموارد الموجهة للتحول نحو “الاقتصاد الأخضر”. علاوة على ذلك، فإن انهيار أسعار النفط سيُضعف القدرة التنافسية لمصادر الطاقة البديلة النظيفة.
ويرجح التقرير تضاؤل الاحتجاجات البيئية على نطاق واسع بسبب “التباعد الاجتماعي”، ولجوء الفاعلين في المجتمع المدني إلى الإنترنت للضغط على الشركات والحكومات، والتي سيكون معظمها أقل قدرة على الاستجابة،
ومن ثمَّ سيتضاءل الخطر المباشر لحدوث صدام بين السياسة والاقتصاد حول قضية تغير المناخ بشكل كبير على المدى القصير، رغم استمرار خطورتها، وبالتالي فقد جاءت ضمن فئة المخاطر منخفضة الخطورة بشكل كبير.
ثامنًا- استمرار التوتر الشيعي:
تسببت السياسة الأمريكية غير المدروسة تجاه الدول الرئيسية التي يقودها الشيعة في الشرق الأوسط (وهي: إيران، والعراق، وسوريا) في العديد من المخاطر على الاستقرار الإقليمي، من أبرزها: الصراع مع إيران، وعدم استقرار أسعار النفط، وتحالف سوريا مع روسيا وإيران. وعلى الرغم من إعلان “ترامب” وقادة إيران عدم الرغبة في الحرب؛ لكن من المحتمل استمرار المناوشات بينهما في العراق، لذلك جاء تصاعد الشيعة ضمن فئة المخاطر الثابتة. ويرجح التقرير أن تتسبب أزمة كورونا في تراجع خطر الصراع العسكري الأمريكي مع إيران، وبالنسبة لدولة العراق فهي الآن أكثر عرضة لخطر فشل الدولة مع انهيار أسعار النفط، واحتمالات تفشي الفيروس،
ومن المرجح أن تطالب الحكومة العراقية القوات الأمريكية بالخروج من العراق هذا العام، وقد يتسبب كل ذلك في عودة نشاط تنظيم “داعش” من جديد، إضافة إلى تعطُّل عملية إعادة الإعمار في سوريا، بسبب تأثُّر رأس المال الإقليمي نتيجة لانخفاض أسعار النفط.
تاسعًا- زيادة السخط الشعبي في أمريكا اللاتينية:
جاءت ضمن فئة المخاطر التي ترتفع خطورتها بشكل كبير؛ حيث تعاني مجتمعات أمريكا اللاتينية من تباطؤ النمو والفساد وانخفاض جودة الخدمات العامة، وبالتالي يرتفع خطر عدم الاستقرار السياسي، ويأتي ذلك في الوقت الذي تتوقع فيه الطبقات الوسطى تخصيص مزيدٍ من الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، مما يقلل من قدرة الحكومات على اتخاذ تدابير التقشف التي يتوقعها المستثمرون الأجانب وصندوق النقد الدولي.
وتُعد أمريكا اللاتينية واحدة من أقل مناطق العالم استعدادًا للتعامل مع فيروس كورونا، وسيتسبب انتشاره في زيادة السخط الشعبي، ومن المرجح تدهور الموازين المالية، وانخفاض العملات، وانهيار الخدمات العامة، وتراجع تدفقات الاستثمار.
كما تواجه الدول المنتِجة للنفط (مثل: البرازيل، وكولومبيا، والإكوادور، والمكسيك) تحدي الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي في ظل انهيار أسعار النفط، وتزداد التوقعات سوءًا خاصة بالنسبة للإكوادور والأرجنتين، وفي البرازيل يرجح التقرير استمرار الإصلاحات وإن كانت بوتيرة أقل انتظامًا، بينما في المكسيك سيتسبب ضعف أداء الحكومة في تفاقم الأزمة.
عاشرًا- تركيا:
جاءت ضمن فئة المخاطر المرتفعة، حيث يشهد نظام الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” حالة من التدهور السياسي الحاد بسبب سلوكه الاستفزازي ردًّا على التهديدات. ويرجح التقرير تراجع العلاقات مع الولايات المتحدة إلى مستويات متدنية، حيث من المتوقَّع أن تدخل العقوبات الأمريكية حيِّز التنفيذ خلال النصف الأول من هذا العام،
مما يقوِّض سمعة البلاد ومناخ الاستثمار، ويضع المزيد من الضغط على الليرة التركية، ومن المتوقع أن تتسبب ردود فعل “أردوغان” على هذه التحديات في مزيد من الإضرار بالاقتصاد التركي.
وفي ظل انتشار فيروس كورونا، أشار التقرير إلى أن ذلك قد يدفع “أردوغان” أكثر لاتخاذ قرارات غير صائبة؛ حيث من المرجح أن يتبنى سياسات اقتصادية غير تقليدية، ويؤكد التقرير على تأثُّر قطاع السياحة بالإضافة إلى الإلكترونيات والأدوية وصادرات السيارات،
مضيفًا أن انخفاض أسعار النفط قد يمنح البنك المركزي التركي مجالًا لخفض أسعار الفائدة، ويساعد في خفض التضخم، وإلحاق الضرر بخصوم تركيا خاصة السعودية والإمارات أكثر من تركيا وحليفتها قطر،
لكنه يعرِّض السياسة النقدية للخطر في مواجهة التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا، وذلك إضافة إلى انشقاق المزيد من الحلفاء السابقين لحزب العدالة والتنمية الحاكم إلى أحزاب معارضة جديدة، وآخرهم نائب رئيس الوزراء السابق “علي باباجان”، مما سيجعل “أردوغان” “زعيمًا جريحًا” لا يمكن التنبؤ بأفعاله.
وختامًا، أكد التقرير أنه من المستبعد احتمال نشوب حرب بين الولايات المتحدة وأي من دول “محور الشر الجديد” (إيران، وكوريا الشمالية، وفنزويلا، وسوريا) هذا العام بسبب أزمة كورونا. وفيما يتعلق بالسياسات الشعبوية، أكد التقرير أن الديمقراطيات الصناعية المتقدمة في العالم (مثل: الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان) لا تزال في وضع جيد لتحمُّل العاصفة الشعبوية هذا العام.
وعلى الرغم من تسبُّب أزمة كورونا في توتر ثقة الجمهور بالحكومات في العديد من الدول، لكن ذلك لا يبشِّر بعودة الشعبوية على المدى القريب. ومن ناحية أخرى، أضافت أزمة كورونا مزيدًا من التعقيدات إلى المفاوضات الفوضوية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالـ”بريكست”؛ حيث تسببت في تقييد المحادثات المباشرة، وقد تُضعف التزام بريطانيا بالأجندة الخاصة بها، كما يرجح التقرير ضعف موقف رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” بسبب سوء إدارة الأزمة، مما قد يتسبب في إطالة أمد المحادثات.
يستغرب بعض الباحثين حين يقال أن جائحة “كورونا” ستعيد تشكيل النظام العالمي القائم، ونجدهم يبادرون لاستنكار فكرة تغيير العالم بفيروس لا تراه العين المجردة، وأن فكرة التغيير في مراحل وحقب تاريخية سابقة قد اعقبت أحداث عظام، سواء حروب عالمية أو تفاهمات دولية كبرى، وهذا صحيح تاريخياً،
ولكني أجد هذه النظرة قاصرة نسبياً وتتجاهل رؤية الأمر من منظور واسع وتركز فقط على السبب وتتجاهل التداعيات والنتائج، وتتجاهل أيضاً أن كل الأحداث العظام والتغيرات والتحولات الكبرى قد بدأت من واقعة أو حادثة بسيطة لم يتصور أحد وقت حدوثها أنها ستكون بوابة تغيير العالم!
وكي يمكن مناقشة الأمر بشكل أعمق علينا أن نشير إلى أمرين مهمين أولهما أن جائحة “كورونا” لم تعد أمراً بسيطاً بكل ما سببته من خسائر بشرية واقتصادية واستراتيجية وتعطل شبه تام لكل آليات التعاون والتعامل الدولي في مختلف المجالات، حيث يقدر خبراء الاقتصاد حجم الخسائر التي سيتكبدها الاقتصاد العالمي بسبب جائحة كورونا، بنحو 5 تريليونات دولار، والأهم من ذلك أن العالم يدخل في أكبر ركود اقتصادي في فترة السلم منذ الثلاثينيات، ويعتقد خبراء البنك الأمريكي “مورغان ستانلي” أن اقتصادات البلدان المتقدمة لن تعود إلى مستويات ما قبل الأزمة قبل الربع الثالث من 2021.
ولتقريب الصورة فإن صندوق النقد الدولي يرى أن حجم خسائر الاقتصاد العالمي جراء تفشي الفيروس توازي حجم اقتصادي ألمانيا واليابان، وأن الاقتصاد العالمي قد يخسر نحو تريليوني دولار في غضون عامين بسبب ما يعرف بالإغلاق الكبيرة وهو المصطلح الذي استخدمه الصندوق للإشارة إلى الركود العالمي الحالي، وهو الركود الأسوأ منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن العشرين.
هندسة العلاقات الدولية
هذه الآثار السلبية الضخمة لديها القدرة على إعادة هندسة العلاقات الدولية بما يتوافق مع المعطيات الجديدة التي أنتجتها الأزمة، التي تعيدى تعريف الكثير من المصالح وشبكات العلاقات كما تعيد ترتيب أولويات الدول كما الأفراد، وتعيد رسم أولويات الأمن القومي بوضع المخاطر والتهديدات والتحديات الصحية الناجمة عن تفشي الأوبئة في صدارة الاهتمام جنباً إلى جنب مع الصراعات التقليدية والحروب والتهديدات السيبرانية والكوارث البيئية وغير ذلك. ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف،
وهذا هو الأمر الثاني الذي تجدر الاشارة إليه، أن تبادر الدول جميعها إلى إعادة مراجعة أولوياتها ومصالحها وشبكات علاقاتها الدولية وفقا لأدائها خلال الأزمة وحدود تأثرها، وأيضاً بناء على رؤيتها الذاتية للفرص والتحديات التي أفرزتها هذه الأزمة بالنسبة للدول. وهنا يبدو من الطبيعي أن يكون عالم ما بعد كورونا غير ما قبله، فالعالم لن يعود لطبيعته
ولن تعود الأمور كما كانت قبل فبراير 2020 (حيث بدايات الاغلاق العالمي الكبير عقب تفشي الفيروس) فهناك معطيات جديدة في المجالات كافة، في الطب والصحة كما في الاقتصاد والسفر والطيران وحتى في الصراع البيولوجي والأسلحة غير التقليدية التي ستكون ساحة لتنافس شرس بين الدول حول استخدامها في ردع الخصوم والأعداء.
وبغض النظر عن فكرة الصراع الصيني ـ الأمريكي على الهيمنة القطبية، وهي فكرة ظلت تتردد قبل تفشي جائحة “كورونا” بوقت طويل، فإن عالم ما بعد كورونا سيكون له توازنات وقواعد ومعايير جديدة في تحديد المكانة والنفوذ والهيمنة في النظام العالمي، بل إن فكرة النظام العالمي ذاتها باتت قابلة للنقاش
لأن مجرد الحديث عن نظام مؤسسي واحد قادر على إدارة شؤون العالم باتت مسألة مشكوك في جدواها وفاعليتها في ظل مابات يحيط مؤسسات الأمم المتحدة من شكوك تطال قدرتها على المبادرة والمبادأة والامساك بزمام المبادرة عالمياً في مثل هذه الظروف العالمية المعقدة،
كما باتت الشكوك تطال فاعلية بعض منظماتها مثل منظمة الصحة العالمية المتهمة أمريكياً بالانحياز للصين وحجب الحقائق عن العالم في بدايات الأزمة،
وحتى لو كان هذا الأمر مجرد شكوك واتهامات يصعب اثباتها، فإن ايقاع ووتيرة تعاطي المنظمة ذاتها مع مستوى الخطر الصحي العالمي الناجم عن تفشي فيروس “كورونا” بات موضع شكوك من جانب كثير من الخبراء والمتخصصين.
العلاقات الدولية في عصر مابعد كورونا
ستزداد تعقيداً وصعوبة، وسيعاد تشكيل هذه العلاقات وفقاً لما أنتجته الأزمة من معطيات وحقائق لدى أغلب الدول، فالتحالفات والتكتلات لن تعود كسابق عهدها بل ستطالها آلة التغيير أو النزواء والانهيار، بحسب ما اصيبت به هذه التحالفات من دمار وخسائر في هذه الأزمة الكاشفة، حيث كانت يد الصين وروسيا أقرب إلى شعوب تصنف ضمن الخصوم الاستراتيجي بينما بدا الحلفاء أكثراً تعنتاً ورفضاً لتقديم يد العون للمصابين والضحايا بسبب حسابات واعتبارات لا يمكن للشعوب تقدير اهميتها في مثل هذه الظروف العصيبة.
ستزداد أهمية المصالح الاقتصادية والروابط الحيوية وينحسر تدريجياً الحديث عن الأيديولوجيا والشعارات والمفاهيم الانسانية التي اختفى دورها وتأثيرها تماماً في أزمة كورونا، ويتحول الجميع إلى إعادة الحسابات على حساب فكرة العولمة والاعتماد المتبادل وغير ذلك من نظريات ظن العالم طويلاً أنها قادرة على انقاذه في حال تعرض للخطر.
الخلاصة إذاً أن الحديث عن تغيير يطال العالم ليس نوعاً من التخيلات والانفعالات العاطفية الناجمة عن صدمة كورونا بل هو واقع حقيقي لم تتشكل معالمه بعد لأن الأزمة لم تزل تتطور ولم تتضح لها نهايتها بعد، ما يجعل الحديث عن التغيير مجرد تقدير بسيط لما قد يحدث فعلياً على أرض الواقع في حال ازدادت وتعمقت آثار هذه الأزمة.
من المؤكد أن عالم ما بعد كورونا سيختلف في كثير من المناحي عما قبله، فالخسائر المالية الضخمة، وعمليات الإغلاق، وتقييد الحركة، جميعها مثلت تحديات غير مسبوقة على الأقل من حيث المدى والعمق للبشرية جمعاء، ولا شك أنها ستدفع عديدا من الحكومات والدول وحتى الشركات والأفراد إلى إعادة النظر في سلوكهم الاقتصادي في مرحلة ما بعد كورونا لتفادي تكرار هذا المشهد ومصاعبه مرة أخرى.
لا يمتلك أحد إجابة قاطعة عما ستكون عليه ملامح المرحلة المقبلة، وتفاصيل الصورة الاقتصادية المقبلة، بل إن تساؤلات كبرى تجاه المستقبل الاقتصادي باتت الآن مثار جدل ونقاش حاد، فإلى أي مدى أثبت النظام الرأسمالي قدرة وفاعلية في التعامل مع الأزمة.. هل ستتراجع العولمة وتنتصر الحمائية الاقتصادية، أم أن طبيعة الوباء وسرعة انتشاره ونطاقه أثبتت أنه بدون تعاون عالمي
فإن الخطر محدق بالجميع، وما موقع الدولة في المرحلة المقبلة، وهل سنشهد تناميا في دور المؤسسات ذات الطبيعة الكونية أم أن الدولة ستظل حجر الأساس في النظام العالمي، هل سيشهد العالم تحولا في أقطابه الاقتصادية الراهنة، وكيف ستنعكس جائحة كورونا على الدور الصيني المتصاعد عالميا خاصة في ظل التناقضات المحيطة بكيفية تعامل الصين مع الجائحة؟ وبينما يحمل خصوم الصين لها وعلى رأسهم الولايات المتحدة مسؤولية تفشي الفيروس، فإن الأنصار يشيدون بالكيفية التي تعاملت بها مع الجائحة ونجاحها في تطويقها محليا على الأقل، بينما وقفت دول أوروبية عريقة في حالة من الارتباك والتخبط، بل إن أسئلة أكثر تخصصا في المجال الاقتصادي مثل تقييم دور البنوك المركزية، وآليات عمل النظام النقدي والمالي العالمي، وسياسات الغذاء والطاقة العالميين خلال الجائحة ستكون محل جدل كبير بين المختصين.
باختصار، هل ستسهم الجائحة في بناء نظام اقتصادي أكثر عدلا وتوازنا داخل كل دولة، وبين مكونات النظام العالمي كله، بحيث يولد نظام جديد أكثر اتزانا وقدرة على المساعدة المتبادلة في أوقات الأزمات، أم أن الاختلال الراهن في النظام الاقتصادي سيتواصل ويتعمق؟
بناء نظام اقتصادي أكثر عدلا
أن جائحة كورونا مثل تغير المناخ جزء من مشكلات الهيكل الاقتصادي العام، وعلى الرغم من أن قضية المناخ ووباء كورونا يبدوان للوهلة الأولى أنهما من المشكلات البيئية أو الطبيعية إلا أنهما مدفوعان بعوامل اجتماعية.
ستتعالى الأصوات بنهاية الرأسمالية، وسيتزايد الانتقاد للنظام الرأسمالي العالمي وقدرته على التعامل مع تلك النوازل، لكن لن يكون هناك بديل شامل له لفترة طويلة، سيسعى بعض إلى تهذيب المشهد، وإضفاء بعض الجوانب الإنسانية عليه من خلال مزيد من المساعدات، وتعظيم الجانب الاجتماعي له وليس أكثر من ذلك، ثانيا كشفت الأزمة أن الدولة ستظل حجر الأساس في بنية الاقتصاد العالمي، وتلك هي الكلمة المفصلية في طبيعة النظام الاقتصادي في المرحلة المقبلة، فنظام ما بعد الجائحة سيشهد مزيدا من الانكفاء الذاتي،
وعودة الحواجز التجارية والضوابط المالية، بما قد يعنيه ذلك من استعادة الدول المتقدمة عديدا من الصناعات التي قامت بتحويلها إلى الاقتصادات البازغة، وسنشهد مزيدا من حدة المنافسة والاستقطاب الاقتصادي وسيترافق ذلك مع تراجع معدلات النمو في الأسواق الناشئة، وستزداد حدة الشراسة لدى الاقتصادات المتقدمة، وسنشهد تصاعدا في العداء الاقتصادي بين قطبي الاقتصاد الدولي الولايات المتحدة والصين”.
“من المتوقع أن تتسم مرحلة ما بعد الجائحة بتزايد في أعداد الدول العاجزة عن سداد ديونها، وزيادة معدلات الاقتراض الدولي في الوقت ذاته للتعامل مع الخسائر الاقتصادية للأزمة، وهذا سيفجر أزمة ديون ذات طبيعة عالمية غير مسبوقة، لأن عديدا من الدول المتقدمة سيواجه أيضا ضغوطا حادة ناجمة عن أن سداد ما عليها من ديون قد يعني عمليا انخفاضا واضحا في مستويات معيشة السكان”.
أن الاقتصاد العالمي سيكون بعد الجائحة أكثر تكاملا مما كان عليه من قبل، وما الأصوات التي تنادي بمزيد من الحمائية إلا أصوات تغرد خارج سرب الحركة التاريخية للاقتصاد الدولي. أن “الانطباع الذي ساد نتيجة الأزمة أن شبكات العولمة هشة للغاية بسبب تعقيداتها المذهلة، وأنها تتعطل بسهولة،
وتجعل الدولة وسكانها رهينة الاعتماد على الخارج، لكن بعد أن تهدأ العاصفة ويستعيد العالم الجزء الأكبر من توازنه المفقود، سيكتشف أن تلك الانطباعات السلبية التي روج لها بعض القادة ضد العولمة وحرية التجارة مضلة ومضللة للغاية؛ فشبكات الإنتاج العالمي التي تتسم بالتعقيد هو ما يمنحها القوة،
وهذا الترابط الاقتصادي العالمي حال دون أن يكون العالم خلال الجائحة رهينة لدولة واحدة أو مجموعة محدودة من الدول لإمداده باحتياجاته، بل إن العولمة هي التي أتاحت الفرصة لتعزيز الابتكارات على المستوى العالمي، وتلك القدرة الابتكارية ليست فقط ذات بعد اقتصادي مهم يؤدي إلى زيادة معدلات التجارة الدولية،
بل الأكثر أهمية أنها تؤدي إلى النهوض الشامل بمستوى المعيشة من خلال نقل المستهلك إلى مستوى استهلاكي أعلى، وحتى في الأزمة الراهنة، فإن الذين ينتقدون العولمة وحرية التجارة، لأنه عندما تفشى الفيروس في الصين،
فإن العالم وجد مصاعب في تلبية احتياجاته من بعض السلع، يتناسون أنه بفضل العولمة وحرية التجارة أمكن توجيه الطلب العالمي إلى دول أخرى”. “إن العولمة تعزز المرونة الاقتصادية،
وهذا سيكون جوهر الاقتصاد الدولي في مرحلة ما بعد الجائحة، باعتبار ذلك الوسيلة الوحيدة لضمان إنهاء حالة الركود الاقتصادي التي باتت واقعا حقيقيا الآن، وهذا لا يعني بالطبع أن ملايين من الأشخاص لن يفقدوا وظائفهم، ومئات الآلاف من الشركات ستنهار، لكن الخسائر ستكون أكبر بكثير إذا كان رد الفعل العالمي مزيدا من الحمائية الاقتصادية”.
أن الدولة أثبتت أنها حجر الزاوية في الاقتصاد الدولي خلال الأزمة، لكن هذا تحديدا ما أدى إلى الإخفاقات التي شهدها العالم في التعامل مع الجائحة من وجهة نظرها.
أن “المنظمات ذات الطبيعة العالمية ستقوم بدور أكبر في توجيه مسار الاقتصاد الدولي خلال الفترة المقبلة، ومؤسسات كصندوق النقد والبنك الدولي وحتى منظمة التجارة العالمية ستلعب دورا محوريا في المرحلة المقبلة، ذلك لتزايد الحاجة الدولية إلى قدراتها المالية والخبرات التنظيمية المتاحة لديها”.
أن المشهد الاقتصادي في مرحلة ما بعد الجائحة، ولنحو عقد من الزمان على الأقل سيكون ملتبسا غير واضح الملامح يتسم بالاستقطاب والتفتت في آن واحد.
أن “جائحة كورونا حدث غير مسبوق في العصر الحديث، وقد أوجدت مشهدا دوليا مشوشا، واتسم المظهر العام لمواجهة الفيروس باكتفاء كل دولة على ذاتها للتعامل مع تحديات الأزمة، وعندما يستعيد الاقتصاد العالمي توازنه،
فإننا سنشهد ولأعوام تبادل الاتهامات بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جانب، والصين وعدد من الاقتصادات التابعة لها من جانب آخر، بشأن على من تقع مسؤولية الخسائر الناجمة عن الفيروس، هذا التجاذب سيحمل عددا من الملامح سيعيد صياغة المشهد الاقتصادي الكوني،
إذ سيصاب أغلب المؤسسات الاقتصادية والمجموعات الدولية بمزيد من الشلل في الأداء، وبينما ستزداد حدة المنافسة التجارية بين قطبي الاقتصاد العالمي الولايات المتحدة والصين، فإننا سنشهد مزيدا من الحمائية الاقتصادية في العلاقة الثنائية بينهما، وستتراجع القدرة الاقتصادية للولايات المتحدة لمصلحة مزيد من صعود نجم الصين”. أن المشهد الاقتصادي بعد الجائحة سيكون مختلفا في جوهره عن النظام الاقتصادي العالمي السابق.
“الاقتصاد الدولي تعرض لهزة عنيفة غير مسبوقة أدت إلى خلخلة في الأساسات التي يرتكن إليها النظام ذاته، وفي الواقع بعض تلك الاهتزازات سبق ظهور الفيروس، مثل التحولات الجارية في مجال تجارة التجزئة، حيث تتعزز التجارة الإلكترونية على حساب الأنماط التقليدية، هذا الاتجاه سيزداد بما قد يحمله في طياته من ارتفاع في معدلات البطالة على المستوى العالمي مستقبلا،
كما أن الأزمة عززت الشعور العام لدى الأفراد خاصة وبدرجة ملحوظة أيضا لدى الشركات بأهمية الاحتفاظ بمبالغ نقدية احتياطية تحسبا للطوارئ، وإذا كان ذلك سلوكا عاما لدى عديد من الفئات الاجتماعية فإن عمقه ومدى نطاقه سيتسعان، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى مصاعب في توافر السيولة، والأهم أن يدفع إلى انخفاض الطلب الاستهلاكي”.
أن الأزمة ستنعكس سلبا على الاستثمار، ما سيعمق الركود، والعصب الرئيس لإدارة الاقتصاد المحلي سيقع على عاهل محافظي البنوك المركزية، إذ ستتمتع تلك البنوك بسيطرة شبه مطلقة على الاقتصاد الوطني وستكون الموجه الرئيس لدفة النشاط الاقتصادي،
وهذا سيعزز من الاعتماد على السياسات المالية للتعامل مع الأزمات الاقتصادية المقبلة، بما يتضمنه ذلك من تراجع الأفكار التي تنظر إلى الأزمات الاقتصادية على أنها أزمات اجتماعية في الأساس، وأن إصلاح الخلل الاقتصادي يتطلب تدابير اجتماعية تعزز العدالة في توزيع الدخول”
في عصر المشاعية كانت المعرفة خاضعة الى شرطها التاريخي المشاعي في كل شيء يمثل هبة الطبيعة، فكانت المعرفة واحدة من تلك الهبات المشاعية بين البشر تنتقل كخبرات أساسية في الحياة بين أجيال البشر، لكن في عصر التفاوت وانحيازات الملكية الخاصة تقلصت المشاعية شيئا فشيئا وصارت مرهونة بالشرط التاريخي الخاص،
وكفت الطبيعة عن هباتها المباشرة وصارت تهب بشرط الجهد البشري، وهنا ظهرت الحيازات الزراعية الخاصة أو ما عبر المؤرخون عنها بالقرية الزراعية الأولى في التاريخ البشري.
وعلى أثر هذه الحيازات تقلصت المشاعية في كل شيء، وتقلصت المشاعية المعرفة ولم تعد بعد الأن تعتمد على هبات الطبيعة بل على الكسب البشري لها وهو ما دعا النظام المعرفي القديم الى تقسيم المعرفة الى حضورية -بديهية وحصولي – كسبية، وفي هذا التقسيم المعرفي ظهر مصطلح العلم ليحل محل مصطلح المعرفة في التداول العلمي ومال الى التحصيل أو الكسب في بناء كيانه الذي لازال معرفيا–فكريا.
ليتطور تصنيف هذا العلم بعد ازدياد حركة العقل وتخصصه في تحصيل وكسب المعرفة وكان بدأ هذا التصنيف منذ عصر الإغريق ليستمر التصنيف في أبوابه وفروعه الى عصرنا هذا. وكان التصنيف في العلم يمر وفق معايير الحضارات والشعوب التي ظلت تخوض مغامرات العقل وتكّون عقلها الخاص بها وتنتج بواسطته معارفها وعلومها، لكن أهم وأول تصنيفات العلم هي تصنيفات افلاطون ومن ثم تلميذه أرسطو وغالبا ما يقدم تصنيف أرسطو ولعله بتأثير علماء الحضارة الاسلامية في تاريخ العلم وقد نظروا الى أرسطو بأنه المعلم الأول ويقوم تصنيف أرسطو على تقسيم العلم الى:
أولا – العلم النظري ويشمل ما نسميه اليوم علوم أكاديمية فنية ورياضية ما عدا الميتافيزيقيا (علم ما بعد الطبيعة).
ثانيا – العلم العملي ويشمل أيضا ما نسميه علوم أكاديمية عقلية كالاقتصاد والسياسة ما عدا علم الاخلاق.
ثالثا – العلم الانتاجي ويشمل ما نسميه علوم الأدب والفنون ويضيف اليه أرسطو علم الجدل.
وقد أضافت اليها الحضارة الاسلامية تصنيفات أخرى للعلوم ثم أعقبتها النهضة الأوربية والحضارة الحديثة تصنيفات أكثر دقة وتفرعا.
وفي اهمية الخطابة التي تنتمي الى العلم الانتاجي ومركزية الجدل فيها يرى أرسطو أن الخطابة يمكن لها تثقيف الناس في ادراك الموضوع من جميع جوانبه، وبذلك تكون أول اشارة الى صلة العلم بالثقافة باعتبارها مجالا معرفيا خاصا أو نشاطا معرفيا خارج أسوار الدرس الأكاديمي ومتمما له في دخوله في الحياة العقلية للمجتمع وهي أول محاولة نظرية في كسر احتكار العلم.
فالعلم بأصنافه الثلاث لدى أرسطو ظل حكرا على الطبقات العليا في المجتمع وحصرا بيد المؤسسات ذات الصلة بالسلطة والدولة، وهو ما تسبب في إقصاء المجتمعات الدنيا وطبقات الهامش عن المعرفة والثقافة الفكرية، ومع كل مواجهة كونية مدمرة أو جائحة مرضية تخسر الدول والحضارات وجودها ومركزيتها،
لكن هذه العلوم سرعان ما تتكيف مع آثار الدمار وجائحات المرض وتعيد دورة انتاجها بتغيير جزئي لكنه مهم في المضمون والشكل، وهو ما يفسر استمرارها وبقاءها بعد كل مواجهات الدمار الكونية والجائحات المرضية ويتطور لديها النظام المعرفي تطورا مهما ودقيقا لكنها تظل تحتفظ بالحاجز الطبقي للعلم كما يصفه (ج د برنال في كتابه تاريخ العلم).
لكن في عصر التنوير وبشكل جزئي في عصر النهضة بدأ كسر هذا الحاجز الطبقي للعلم وفي نظر برنال فهي أهم فترات تقدم العلم وفيها انتشرت أفكار العلم في المجتمعات وتأثرت به ايديولوجيات العصر، وتم تمثل أفكار العلم من قبل الوعي الاجتماعي الذي نستطيع القول أنه ومن خلال هذا التمثل الفكري الاجتماعي لمقولات العلم نشأت طبقات المثقفين في هذه المجتمعات وخرج العلم عن أسوار الجامعات والأكاديميات
واطاره الخاص الى متناول الفكر البشري العام، ليصوغ منه المفكرون والمثقفون أراءهم وأفكارهم ونظرياتهم حول ما يتصل بالحياة الاجتماعية العامة، وكان دافعا لخروج الاساتذة من أسر الاكاديميات الجامعية الى حقول الفكر البشري العام وتوجيه رسائلهم الفكرية والثقافية الى المجتمعات، وهنا برز دور الصحافة في توجيه وتثقيف الجماهير، لقد صارت أفكار ماركس ومقالاته الصحفية حديث الطبقات الهامشية العمالية.
وأدى استمرار التواصل العلمي بالثقافي الى زيادة اتصال العلم بالثقافة بما هي مجالات غير أكاديمية للفكر من خلال ظهور وتطور العلوم الاجتماعية والانسانية أو باختصار علم الانسان الذي أغرى الطبقة المثقفة الحديثة بالاستزادة من مناهج هذه العلوم وأفكارها ونظرياتها، ثم صنعت الطبقة المثقفة الحديثة والمعاصرة مجالاتها المعرفية الخاصة بها وأفكارها ومفاهيمها ومفرداتها حتى ابتكرت مصطلحاتها الخاصة بها أيضا، وهنا نستحضر الأسماء الثقافية الكبرى في العالم الحديث والمعاصر التي نقلت نشاطها المعرفي وخطابها العلمي الى الحلقات الاجتماعية والفئات المجتمعية العديدة خارج أسوار الجامعة.
وقد عبرت تلك الطبقات الثقافية عن صلتها الشديدة بالحياة الاجتماعية البشرية وكانت أفكارها ونظرياتها صدى أو نتاج واقع هذه الحياة الاجتماعية، وكانت تطمح تلك الطبقات المثقفة أو طبقات المثقفين على تنوعهم واختلاف مشاربهم الفكرية والنظرية الى صياغة الواقع أو الحياة الاجتماعية والسياسية للبشرية على ضوء أفكارهم ونظرياتهم،
وقد أوشكوا على تحقيق ذلك لاسيما مع تجارب التغيير السياسي والاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية وصولا الى مرحلة ما بعد انهيار نظام القطبين، التي أفرزت واقعا سياسيا واجتماعيا لعبت فيه طبقات المثقفين دورا بارزا ورئيسيا ولو على الصعيد النظري والمعرفي الثقافي، إلا ان ظهور جائحة كورونا جعلتهم يلزمون الصمت على مستوى المفاهيم والمفردات الفكرية الخاصة بالثقافة الحديثة والمعاصرة.
وتمر الطبقة المثقفة الآن بمرحلة الحيرة الفكرية قبل ان يستوعبوا الصدمة، فالمفردات الفكرية والمفاهيم التكوينية الخاصة بجهازهم المعرفي غير قادرة على استيعاب هذا الحدث الكوني وغير مؤهلة للجدل في موضوع استثنائي على مستوى الوجود البشري العام.
نعم تحدث علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع وافترضوا أفكارا في عالم ما بعد كورونا، لكنها تقف عند الحدود الدنيا وتلامس سطوح هذا العالم الطارئ دون الجرأة على الولوج في أعماقه، وبذلك لم تتزود الثقافة المعاصرة من مصادرها الرئيسية في التفكير وما يمكن أن يقدم لها العلم الأكاديمي من تحليلات واحصاءات وتوقعات نظرية.
لكن حين يستفيق المجتمع البشري من أثار الصدمة الكورونية فان العلم لاسيما علم الانسان سيستعيد قدرته على التكيف وانتاج ذاته وأفكاره من جديد، بل يسعى الى استثمار هذه الجائحة من أجل زيادة رصيده العلمي لاسيما علوم الاقتصاد والسياسة،
وحينها تبدأ الطبقة المثقفة باستعادة نشاطها الفكري وهي تلجأ في أول الأمر الى نقد جهازها المعرفي الذي لم يكن يمتلك القدرة الفكرية في الجدل في الجائحات والمواجهات المدمرة، وسيلجأ الى ازاحة الكثير من مفردات الحداثة ومفردات ما بعد الحداثة،
واستبدال مفاهيمه بمفردات اصطلاحية ومفاهيمية تفرضها عليه وقائع عالم ما بعد كورونا لأن الفكر هو نتاج الواقع في جدلية العلاقة بين الواقع والفكر. لكن الى أي مدى يمكن استشراف طبيعة مفاهيم وأفكار الثقافة في عالم أو واقع ما بعد كورونا؟ انه من الصعوبة الفكرية بمكان أن تُحدد الآن لا سيما وأن البشرية لازالت في موقع التحدي الذي تمر به بإزاء كورونا.
منذ الانتشار الوبائي لفيروس كورونا في كل أرجاء المعمورة وتخطي عدد الضحايا شرقاً وغرباً حاجز الربع مليون شخص، ولجوء الدول إلى إجراءات الإغلاق داخلياً وخارجياً، تطفو على السطح العديد من التساؤلات حول على مستقبل العالم والعلاقات بين الدول ونظام العولمة الذي توغل في حياة المجتمعات على مدى الـ30 عاماً الماضية؟
وما هو شكل التعاون الدولي لمرحلة ما بعد الوباء؟ هل سيزداد الانفتاح أم ستتجه الدول إلى مزيد من الانكفاء؟ هل سيصبح عالمنا أفضل أم أسوأ؟
إن صعود النظام الدولي الليبرالي كان عاملاً رئيسياً في الحركة المتنامية للناس عبر الحدود، سواء لأغراض التجارة، والتمويل الدولي وتدفق الأموال، والعمالة، والدراسة، أو السياحة. لكن هذه العولمة سمحت أيضاً بانتشار الفيروس التاجي في أنحاء العالم، وقد تكون مكافحة الفيروس في نهاية المطاف قوة فعالة لإبطال التأثيرات السيئة للعولمة.
أن هناك وجهين لعملة العولمة؛ الجانب الإيجابي، حيث يخلق التدفق عبر الحدود للأشخاص والبضائع والأموال والمعلومات ثروة وفرص جديدة. وعلى الجانب السلبي، فهذا التدفق يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التفاوتات العالمية، وتمكين الإرهاب الدولي والجرائم عبر الحدود، وكذلك انتشار سريع للأمراض والأوبئة.
أن الانتشار السريع للأمراض ظهر جلياً مع تفشي «سارس» عام 2003، ولكن بالمقارنة مع بداية هذا القرن، ازدادت حركة الناس عبر الحدود بشكل كبير، وكانت سرعة انتشار كورونا مختلفة تماماً.
إن جائحة الفيروس التاجي لها تداعيات مدمرة على الشركات التي استفادت من الترابط الاقتصادي المدعوم بسلاسل التوريد عبر الحدود. والصين هي أكبر قاعدة إنتاج في العالم، تضررت بشدة منذ اندلاع الأزمة، وتضررت معها العديد من الشركات التي أصبحت تعتمد على الصين بشدة.
أنه من المبكر التنبؤ بتأثير محدد وواضح لأزمة كورونا على العلاقات الاقتصادية الدولية فالاقتصاد العالمي متشابك والعلاقات التجارية متشعبة بصورة كبيرة، لكن الذي لا شك فيه أن التأثير لم يسبق له مثيل.
يتوقع أن تعاود التجارة العالمية نشاطها وخاصة فيما يتعلق بتجارة السلع الأساسية مثل الغذاء والمنتجات الزراعية والبترول والأجهزة الطبية والأدوية، وذلك على المدى المتوسط، لكن ذلك وفق رأيه مرتبط بحالة انحسار الوباء وقدرة الدول على محاصرة معدلات التفشي.
أنه من منظور تحليل المخاطر، يمكننا على الأقل أن نرى اتجاهاً سريعاً نحو الانتقال من قواعد الإنتاج المتفرقة عالمياً لصالح المرافق المحلية. مثلاً في قطاع السياحة قد يضطر الكثيرون في هذه الصناعة إلى البدء في العمل على مبادرات لزيادة الطلب المحلي. أن تصبح الحدود الوطنية أكثر تشدداً من حيث الصناعة وحركة الناس عند مقارنتها مع 30 عاماً من العولمة التي بدت جلية منذ نهاية الحرب الباردة، مع خطوط أكثر حدة مرسومة بين المحلي والأجنبي والابتعاد عن الاعتماد على العلاقات الدولية.
أن الشواهد خلال السنوات الماضية قبل أزمة كورونا تؤيد هذا الاتجاه حيث ظهر ذلك في سياسة الولايات المتحدة منذ مجيء الرئيس دونالد ترامب رافعاً شعار «أمريكا أولاً»، كما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتنامي المشاعر المعادية للأجانب في أوروبا بشكل عام يدلل على ذلك، وفي آسيا هناك صعود للمشاعر القومية تمثلت في القمع المتزايد للأويغور والأقليات الأخرى ومحاولات منع التدفق الحر للمعلومات في الصين أو في صعود القومية الهندوسية في الهند.
هذه الاتجاهات، المتمثلة في حدود أقل انفتاحاً وتزايد القومية -انضم إليها الآن إغلاق الحدود بشكل كامل بسبب انتشار الفيروس التاجي. وقد تكون النتيجة تحركاً نحو عالم مغلق أكثر، عالم تحد فيه الحدود الوطنية من نطاق النشاط الاجتماعي.
فإن الأوبئة ليست مجرد مآس تتعلق بالمرض والموت فقط، لكن وجود مثل هذه التهديدات واسعة النطاق، وعدم اليقين والخوف المصاحب لها، يؤديان إلى سلوكيات ومعتقدات جديدة، حيث يصبح الناس أكثر تشككاً، وأقل رغبة في التعامل مع أي شيء يبدو غريباً أو أجنبياً. إن التحدي الآن هو في أخذ النظام الدولي الليبرالي في اتجاه صحي من خلال تنظيم وتخفيف أعباء العولمة، لكنها شددت على أن الواقع سيتطلب تعاوناً دولياً أقوى.
«لقد خلق تهديد الفيروس التاجي وضعاً استثنائياً، ولكن بمجرد أن نتعافى، من المهم أن ننشئ آليات للاستجابة للمرض من خلال التعاون الدولي الفعال، دون الوقوع ضحية للنظرة العرقية الضيقة التي ربما تتغلب في النهاية.
أن العالم سيحتاج إلى العمل من أجل القضاء على مشاكل مثل التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية التي تسببها العولمة. وفي حال فشلنا في ذلك قد نرى البلدان تتجه نحو الداخل بشكل متزايد مع هذه العقلية القومية الضيقة.
أنه على المدى البعيد «١٠ سنوات وأكثر» قد تكون الأزمة دافعاً لمزيد من الاعتماد على الذات وتقييد الحدود ومحفزاً للدول على الاستثمار في بعض الصناعات الاستراتيجية مثل الأدوية واللقاحات والأجهزة الطبية وإن كانت بالطبع هذه الصناعات معقدة وتحتاج لاستثمارات هائلة وتراكم خبرات كبير في مجالي التكنولوجيا والتعليم،
وهو ما قد يدفع نحو المزيد من التعاون الدولي في هذه المجالات تحديداً على الرغم من تنامي النزعة المحلية مع انتشار الوباء. أن وباء الفيروس التاجي أزمة رهيبة،
لكنه في نفس الوقت يوفر فرصة لتغيير طريقة إجراء البحث ومشاركته، حتى يصبح العلم أكثر انفتاحاً وأكثر كفاءة وتعاوناً.
أن الطريقة التي يستجيب بها الباحثون لـوباء «كوفيد-19» في الوقت الحالي يمكن أن تكون بمثابة مخطط لذلك المستقبل. العلماء الذين ينشرون البيانات والأفكار والمعلومات المتعلقة بجائحة الفيروسات التاجية على موقع الشبكة، على سبيل المثال، يدفعون ضد الأنماط القديمة للثقافة العلمية،
مجال جديد لسباق التسلح
إنه بينما أغلق الزعماء السياسيون حدود دولهم، كان العلماء يحطمون حدودهم، مما يخلق تعاوناً عالمياً لا مثيل له في التاريخ. لم يحدث من قبل، كما يقول الباحثون، أن يكون هناك الكثير من الخبراء في العديد من البلدان يركزون في وقت واحد على موضوع واحد وبهذه الاستعجال، حيث وقفت كل البحوث الأخرى تقريباً.
أنه تم وضع الضرورات العادية مثل الائتمان الأكاديمي والملكية الفكرية جانباً. ووفرت حاضنات الأبحاث عبر الإنترنت الدراسات قبل أشهر من المجلات العلمية. حدد الباحثون مئات التسلسلات الجينومية الفيروسية وشاركوها. تم إطلاق أكثر من 200 تجربة سريرية، جمعت بين المستشفيات والمختبرات حول العالم.
إن الصراع السياسي القائم بين الصين والولايات المتحدة ليس في صالح أحد، أن التوجه نحو التغطية واستخدام البحث كضرورية وطنية في الصراع بين بكين وواشنطن يهدد بسباق تسلح في مجال التكنولوجيا الحيوية. إن العلماء يرون أن شعار أمريكا أولاً ليس له مكان في مجال البحث العلمي وخاصة في ظل أزمة مثل كورونا.
وكان واضحًا أن الولايات المتحدة الأميركية مثلت المصداق الأوضح والأبرز للنموذج الاول، ويكفينا للتدليل على ذلك ما ردده الرئيس الاميركي دونالد ترامب من تصريحات وأقوال وتغريدات بعيدة عن واقع وجوهر الازمة – الكارثة.
فإن “ترامب الذي وصف فيروس كورونا ذات مرة بأنه خدعة، استمر في تجاهل خطورته رغم تفشيه الكبير في أنحاء العالم ووصوله إلى الأراضي الأميركية ما اضطره، في بداية الأمر، إلى اتخاذ إجراءات، أكد خبراء أنها جاءت متأخرة لجهة الحد من انتشار الفيروس، لكن الكارثة الموازية لتعامله الفاشل مع الفيروس لم تنحصر بشقها الصحي وتداعياتها على الأميركيين، بل تجاوزته إلى تدمير سمعة الولايات المتحدة عالميا، وخلق أزمة ثقة بين واشنطن وشعبها وحلفائها”.
ولعل ما يلفت الانتباه ويثير التساؤل والاستفهام، هو أن كورونا اجتاح دولًا ومجتمعات غنية ومتقدمة في المجالات العلمية والطبية والاجتماعية، في مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا على وجه العموم، بينما كان انتشاره وتفشيه في الدول والمجتمعات النامية ذات الامكانيات والقدرات البسيطة والمحدودة، أقل بكثير، رغم أن الحديث عن نظرية المؤامرة من قبل أطراف دولية كبرى، لم يتوقف منذ الأيام الأولى لظهور الفايروس.
ومع أن الخبراء والمختصين يتحدثون عن جملة عوامل وأسباب تقف وراء ذلك الانتشار السريع، الا أن الاستهانة بالوباء في بادئ الامر وعدم تقدير الموقف بالشكل الصحيح من قبل مختلف حكومات البلدان الاوروبية وانتهاج ما يسمى بنظرية مناعة القطيع (Herd immunity)، أدى الى خروج الأمور عن السيطرة، على العكس من بلدان أخرى أصابها الوباء، كما هو الحال مع الصين، التي انتهجت نظرية التباعد الاجتماعي (Social distancing)، وبالتالي نجحت الى حد كبير في احتواء الوباء – الجائحة.
ورغم أن الصورة تبدو مشوشة وغامضة الى حد كبير، ويبدو أنها ستبقى كذلك الى أمد غير معلوم، الا أن الحديث عن عالم ما بعد كورونا بات يفرض نفسه على الواقع مبكرا، ويبدو أن جائحة كورونا ستغير خارطة التوازنات والعلاقات والمعادلات الدولية على نطاق واسع، افقيًا وعموديًا، ولعل هذه المحطة التاريخية المهمة والخطيرة تشبه في الكثير من تفاصيلها وجزئياتها محطة نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، ومحطة تفكك المعسكر الشرقي وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي،
ويبدو أن التحدي الأكبر اليوم هو أمام الولايات المتحدة الاميركية أولا، وأوروبا ثانيًا، سواء ككيان سياسي واحد متمثل بالاتحاد الاوروبي، أو كدول لها ثقلها وحضورها السياسي والاقتصادي الكبير في المشهد العالمي، في مقابل آفاق جديدة تفتح أبوابها أمام المارد الصيني الكبير.
ولعل وزير الخارجية الاميركي الأسبق هنري كيسنجر(97 عاما)، لم يخطئ حينما قال “ان الأضرار التي ألحقها تفشي فيروس كورونا المستجد بالصحة قد تكون مؤقتة، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال عديدة”، مضيفا، ان الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم الآن بسبب الوباء الفتاك، أعادت إلى ذهنه المشاعر التي انتابته عندما كان جنديا في فرقة المشاة خلال مشاركته في الحرب العالمية الثانية أواخر عام 1944، حيث يسود الآن الشعور نفسه بالخطر الوشيك الذي لا يستهدف أي شخص بعينه، وإنما يستهدف الكل بشكل عشوائي ومدمر، وان قادة العالم يتعاطون مع الأزمة الناجمة عن الوباء على أساس وطني بحت، إلا أن تداعيات التفكك الاجتماعي المترتب على تفشي الفيروس لا تعترف بالحدود”. “أن فيروس كورونا سيسرع من تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق”، وهو ربما كان يقصد تراجع موقع الولايات المتحدة الاميركية كقوة عالمية اولى وتقدم الصين لاحتلال موقع الريادة العالمية.
فضلًا عن ذلك، هناك من يعتقد أن تداعيات كورونا دحضت وفندت العديد من النظريات التي بشر بها الغرب الليبرالي، وفي مقدمته الولايات المتحدة، ومن بينها العولمة، لا سيما ببعدها الاقتصادي، “ان الفيروس سيسرع عملية الانتقال من العولمة التي تركز على الولايات المتحدة الاميركية إلى تلك التي تتمحور حول الصين”.
أن هذه الأزمة ستقوم بتعديل هيكل القوى العالمية بطرق لا يمكن تخيلها، أن المنتصرين في أزمة كورونا هم من سيكتبون التاريخ، في اشارة الى الصين، وانه من المرجح أن تساهم باستمرار تدهور العلاقات الصينية – الأميركية وإضعاف التكامل الأوروبي.
ولا شك أن هذه ملامح أولية، وما زالت تفاعلات تداعيات وآثار كورونا في بداياتها، وقد يكون العالم بحاجة الى وقت طويل حتى تتبلور وتكتمل صورته الجديدة، وتتضح معادلاته وتوازناته المحكومة بحقائق ومعطيات مختلفة عن تلك التي حكمت العالم وتحكمت به على مدى بضعة عقود من الزمن.
في أوروبا هناك بوادر تفكك في الاتحاد، نتيجة الشك الذي اعترى بعضًا من أهم دوله حول معنى استمراره طرح السؤال حول مستقبله في فرنسا وإيطاليا وصربيا وغيرها، وعبر كتّاب وصحف، أخفق الاتحاد في أزمة الوباء من أن يكون موحداً، وكذلك هي الحال في الولايات المتحدة ذات الاتحاد الفيدرالي، حيث رأينا صراعاً سياسياً يستغل الوباء لينتقم من الآخر جمهوريا وديمقراطيا، وخلافات حادة بين بعض الولايات والإدارة المركزية كولاية نيويورك مع إدارة ترامب.
إذاً ليس العالم الخارجي هو الذي سيعاد تشكيله بل العوالم الداخلية للكثير من الدول أيضاً، حيث سيكون السعي في بعض أهم الدول الرائدة اقتصادياً، ليس الاقتصاد الصناعي، بل صحة المجتمع وصحة المجتمع تعني مركزية الدولة في موضوع الصحة،
وهو بداية لتقمص النموذج الصيني، وربما يتعدى ذلك الصحة إلى جميع القطاعات فأزمة الكمامات وأجهزة التنفس تجعل توطين الصناعات أمراً ملحاً وهذا يعني العودة إلى الحمائية الوطنية على حساب العولمة الرأسمالية الأمريكية الأوروبية التي كانت اعتمدت العمالة والمواد الخام الأرخص في الشرق الأقصى.
أن المنتصرين في المعركة ضد فيروس كورونا القاتل هم من سيتسنى لهم كتابة التاريخ كما هي الحال عبر تاريخ البشرية. العبارة الأخيرة هي ملخص لحالة الضياع التي يشهدها العالم دولاً وأفراداً في ظل المعاناة الإنسانية، وأجواء الموت والحزن، أصبح السيطرة على الفيروس ومنع انتشاره، وحماية المجتمع، وإيجاد دواء يقضي عليه هو عنوان التقدم والسيادة للمستقبل في أيامنا العصيبة، لكن ذلك ربما يعبر عن حالة مؤقتة، أما المستقبل وتغير الأقطاب المهيمنة فهي عملية تحتاج إلى عقدين من السنين على أقل تقدير قبل تحقق بعض من تلك التنبؤات.
من المؤكّد أن العالم ما بعد تفشّي وباء فيروس كورونا سيكون مختلفاً، كيف؟
لا أظنّ أن أحدًا حتى الآن، يملك الإجابة، ليس لعدمها، بل لأن الفيروس وصدمته العالمية لا زالت تشدّ العالم، ولم ينجلِ غبار المعركة العالمية مع الفيروس بعد. وبالتالي، فإن كل ما نكتبه هنا، وكل ما يُكتب أو يقال هو استعراضٌ آني وأولي، ومحاولة كلامية للفهم والاستيعاب. والتحليل العلمي ممزوج بالحدس والتفكير الصاخب بصوتٍ مسموع في هذا الفضاء العالمي الذي نشعر اليوم أكثر من أيّ وقت مضى،
بأننا متوحّدون فيه كبشر بعيدا عن كل منازع التفكير في نظرية المؤامرة والرابحين والخاسرين في المجتمع الدولي وتنافس المسلمات والنظريات السياسية والفلسفية؛ فليس اليوم هو موعد جرد الحساب والشماتة والانتفاخ بانتصارات وهمية، بل يوم الوحدة العالمية وتضافر الجهود لنجاة البشرية والقضاء على المرض.
إن القوة الأمريكية بحاجة إلى استراتيجية جديدة؛ ذلك أنه في عام 2017، أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” عن استراتيجية جديدة للأمن القومي تركز على منافسة القوى العظمى.
ويظهر الآن فيروس كورونا أن هذه الاستراتيجية غير كافية، حتى لو سادت الولايات المتحدة كقوة عظمى، فإنها لا تستطيع حماية أمنها من خلال التصرف بمفردها- بالطبع، فإن هذه نقطة جوهرية في معظم سردية المدرسة الليبرالية الجديدة التي يمثلها ناي؛ ذلك لأن تقنيات القرن الحادي والعشرين عالمية ليس فقط في توزيعها، ولكن أيضًا في عواقبها. يمكن أن تصبح مسببات الأمراض وأنظمة الذكاء الاصطناعي وفيروسات الكمبيوتر والإشعاع التي قد يطلقها الآخرون بطريق الخطأ مشكلتنا مثل مشكلتهم. يجب متابعة أنظمة التقارير المتفق عليها، والضوابط المشتركة، وخطط الطوارئ المشتركة، والمعايير، والمعاهدات كوسيلة لإدارة المخاطر المتعددة”. بالتأكيد، لأنه يؤكد على مبدأ (رابح/ رابح) في التعاون الدولي.
وفيما يتعلق بالتهديدات العابرة للحدود، مثل وباء كورونا وتغير المناخ، لا يكفي التفكير في القوة الأمريكية على الدول الأخرى؛ مفتاح النجاح هو معرفة أهمية القوة المشتركة مع الآخرين. كل بلد يضع مصلحته الوطنية أولاً؛ السؤال المهم هو كيف يتم تحديد هذا الاهتمام على نطاق واسع أو ضيق. يظهر وباء كورونا أننا فشلنا في تعديل استراتيجيتنا مع هذا العالم الجديد”.
“الديمقراطيات سوف تخرج من قوقعتها. وعلى المدى القصير، ستعطي الأزمة الوقود لجميع المعسكرات في الغرب للنقاش حول الاستراتيجيات الكبرى. سوف يرى القوميون والمناهضون للعولمة، والصقور الصينيون، وحتى الأمميون الليبراليون، أدلة جديدة على صحة وجهات نظرهم. وبالنظر إلى الضرر الاقتصادي والانهيار الاجتماعي الذي تكشف عنه الأزمة، سيكون من الصعب رؤية أي شيء آخر غير تعزيز الحركة نحو القومية، وتنافس القوى العظمى، والفصل الاستراتيجي، وما شابه ذلك.
ولكن كما هو الحال في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، قد يكون هناك أيضًا تيار معاكس أبطأ، نحو نوع من الأممية المتشددة المشابهة لتلك التي بدأها فرانكلين روزفلت وعدد قليل من رجال الدولة الآخرين قبل الحرب وأثناءها.
ولقد أظهر انهيار الاقتصاد العالمي في ثلاثينيات القرن العشرين مدى ارتباط المجتمعات الحديثة ومدى ضعفها تجاه ما أطلق عليه روزفلت “العدوى”. ما استحضره روزفلت وغيره من الأمميين الدوليين، كان نظام ما بعد الحرب، والذي من شأنه أن يعيد بناء نظام مفتوح بأشكال جديدة من الحماية والقدرات لإدارة الاعتماد المتبادل.
لا تستطيع الولايات المتحدة ببساطة، الاختباء داخل حدودها، ولكن العمل في نظام مفتوح بعد الحرب كان يتطلب بناء بنية تحتية عالمية للتعاون متعدد الأطراف.
لذا، قد تمر الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية الأخرى عبر نفس سلسلة ردود الفعل هذه مدفوعة بإحساس بالضعف. وقد تكون الاستجابة أكثر وطنية في البداية، ولكن على المدى البعيد، ستخرج الديمقراطيات من قوقعتها للعثور على نوع جديد من الأممية البراغماتية”.
نهاية العولمة كما نعرفها
“وباء كورونا قد يكون هو القشة التي قصمت ظهر البعير للعولمة الاقتصادية. فقد أثارت القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين بالفعل عزماً في الولايات المتحدة الأمريكية على فصل الصين عن التكنولوجيا العالية والملكية الفكرية أمريكية المصدر، ومحاولة إجبار حلفاء أمريكا على أن تحذو حذوها.
إن الضغط العام والسياسي المتزايد لتحقيق أهداف خفض انبعاثات الكربون أثار بالفعل تساؤلات حول اعتماد العديد من الشركات على نقل البضائع من أماكن بعيدة. الآن، يجبر وباء كورونا الحكومات والشركات والمجتمعات على تعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية. ويبدو من غير المحتمل إلى حد كبير في هذا السياق، أن يعود العالم إلى فكرة العولمة المفيدة للطرفين التي حدثت أوائل القرن الحادي والعشرين.
بدون حافز لحماية المكاسب المشتركة من التكامل الاقتصادي العالمي، فإن البنية الاقتصادية العالمية التي تم إنشاؤها في القرن العشرين ستتدهور بسرعة. وسيتطلب الأمر عندئذٍ انضباطًا للقادة السياسيين للحفاظ على التعاون الدولي وعدم الدخول في المنافسة الجيوسياسية العلنية”.
فقد الشعب الأمريكي ثقته بالعولمة والتجارة الدولية. اتفاقيات التجارة الحرة “سامة” كما يراها الأمريكيون اليوم، سواء مع أو بدون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
في المقابل، لم تفقد الصين إيمانها. لما لا؟ هناك أسباب تاريخية أعمق. يعرف القادة الصينيون جيّدًا الآن، أن قرن الإذلال الذي عاشته الصين من عام 1842 إلى عام 1949 كان نتيجة لتهاونها وجهودها غير المجدية من قبل قادتها لقطعها عن العالم.
وعلى النقيض من ذلك، كانت العقود القليلة الماضية من الانتعاش الاقتصادي نتيجة للمشاركة العالمية، كما شهد الشعب الصيني انفجارا في الثقة الثقافية،
مما يجعلهم يعتقدون أنهم قادرون على المنافسة في أي مكان”. أولاً، سيغير كورونا سياساتنا، سواء داخل الدول أو فيما بينها. والسلطات تحولت من المجتمع إلى الحكومات – حتى في المجتمعات الليبرالية،
تعرف الحكومات اليوم إن النجاح النسبي للحكومة في التغلب على الوباء وآثاره الاقتصادية، سيؤدي إلى تفاقم أو تقليص القضايا الأمنية والاستقطابات داخل المجتمعات. وفي كلتا الحالتين، عادت الحكومة.
وتظهر التجربة حتى الآن، أن السلطويين أو الشعبويين ليسوا أفضل في التعامل مع الوباء. والواقع أن الدول التي استجابت في وقت مبكر وبنجاح، مثل كوريا وتايوان، كانت ديمقراطية وليست تلك التي يديرها قادة شعبويون أو سلطويون. لاحظ أن مينون كان مستشارا سياسياً في حكومة مودي القومية الشعبوية في الهند.
ثانياً، هذه ليست نهاية عالمنا المترابط. إن الوباء نفسه دليل على تكافلنا، ولكن في جميع الأنظمة السياسية، هناك بالفعل تحول إلى الداخل، بحث عن الاستقلالية والتحكم في المصائر الداخلية؛ نحن متجهون نحو عالم فقر وبخل أكثر وعالم أصغر.
ثالثاً، هناك علامات الأمل والحس السليم؛ أخذت الهند زمام المبادرة لعقد مؤتمر عبر الفيديو لجميع قادة جنوب آسيا لصياغة استجابة إقليمية مشتركة لهذا التهديد.
وإذا كان كورونا قد صدمنا، ففي الحقيقة إننا أدركنا مصلحتنا الحقيقية في “التعاون المتعدد”.
فيروس كورونا وبقاء الأسئلة
لقد خُلق الإنسان من السؤال، وتطور وارتقى لأنه كائنٌ سؤول، ويقضي وهو يلهج بالسؤال. إذن؛ سؤال كيف سيكون شكل العالم بعد نهاية جائحة كورونا؟ هو في صلب الأسئلة التي يطرحها الكثير من البشر الآن، كما أنها تمرين فكري للفلاسفة والعلماء في مختلف حقول المعرفة الإنسانية، حتى روايات الخيال العلمي.
إنّ اشتغال الفلاسفة والمفكرين وعلماء السياسة والاجتماع على مفهوم (ما بعد) معروف لكل المشتغلين بالعلوم الإنسانية والنظريات السياسية والاجتماعية، خاصة مع فورة سيرورة العولمة منذ أواخر الثمانينيات من القرن العشرين.
وكانت ميزة هذا (الما بعد) أنه ارتبط بالأفكار الكبرى التي تجلّت في مفهوم واسع وغامض ومشوش هو “ما بعد الحداثة” الذي استخدم لأول مرة في حوالي سبعينيات القرن التاسع عشر في مختلف المجالات، ثم “ما بعد” بعد الحداثة، والتي تجلت وأخذت لبوس السياسية والتنافس السياسي، سواء على الأرض بالقوة الجبارة، أو بالنظريات الكبرى والصراع بينها (الماركسية وفروعها، والوضعية وفروعها، والإسلامية وأشكالها). وإذن، فإن السؤال لمعرفة سيبقى مُشرعاً على سعةِ وعمق المخيال البشري وتجلياته، حتى في أغربها، وأبعدها استشرافاً، وإشراقاً، وحدوثا.
وسؤال ما الذي سيحدثه الوباء من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية في العالم يبقى مشروعاً ومهمّاً؛ خاصة إذا تم توجيهه إلى الشخص المناسب. بالتأكيد؛ الإجابات لن تكون متشابهة؛ لأنها ستبقى مُحملة بالتحيزات اللاشعورية والمنطلقات الفكرية والسياسية التي يؤمن فالقضاء على «كورونا» ليست له علاقة من قريب أو بعيد بالتفاؤل والتشاؤم، بل علاقته الكاملة هي مع العلم والعلماء، مع الإنسان القادر دائماً على خلق الحلول، وبناء عالم ما بعد «كورونا». أيها العالم، كفى جنوناً، فإن الإنسان أغلى من المال. الأرض تهتز، لا موعد للزلازل، كفى رقصاً على جثث الأبرياء، أيها الأقوياء، فإن للضعف قوة أيضاً.
عليك بالتخلي عن الكثير، لا الحصول على الأكثر، الإنسان يولد عارياً، ويُحمل إلى القبر عارياً، إلا من قطعة قماش أبيض بلا جيوب. لا يأخذ معه أي شيء، لا شيء. حتى هو يصبح لا شيء.
كان «كورونا» أسرع منهم، أسرع من صوتهم، عبر القارات بلمحة بصر، مع أنه أعمى. لم يدخل بمراسم ولا بجواز سفر، ولا فتحت له بوابة صالات الشرف في المطارات. دخل من فتحة أنف خلقها الله للإنسان ليتنفس، ومن فم وجد ليأكل ويشرب ويتكلم الخير، لا يأكل مال الغير أو الغير نفسه.
لا ذنب لكم أيها الضحايا، يا من متم بالآلاف، ومن أصبتم بالملايين، بفيروس كوفيد التاسع عشر، وأعادوكم إلى عصور لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، الذي مارس سلطات بطريركية مطلقة على الشعب، وقال «أنا الدولة، والدولة أنا» المتهمان الرئيسان هما: التنين الذي عاد للحياة، ويريد قيادة العالم، والكاو بوي المتمسك بالقيادة، والذي يرفع المسدس على كل من يخالف أوامره.
تعتبر التبعات الاجتماعية لكورونا أكبر حجما وأعمق وأدوم أثرا من تبعاته الاقتصادية، خاصة في المجتمعات الغربية. ففي تلك المجتمعات التي يعيش أفرادها حياة ناعمة منضبطة ومستقرة، ولم يتعرضوا لتقلبات الحياة، يصبح الفرد أكثر هشاشة من الناحية النفسية. ومع طغيان النزعة الفردية في هذه المجتمعات، تضعف «المناعة النفسية» للفرد والمجتمع، وتظهر العديد من الأمراض النفسية والاجتماعية. كما أن تفاقم تلك الجائحة بهذا الشكل الكبير والسريع في دول الغرب المتقدم، لم يثر الذعر والإحباط لدى الأفراد فقط، بل لدى الحكومات والقيادات.
في ضوء هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى والمتسارعة التي أحدثها وباء كورونا، تتشكل عالميا ظاهرتان مهمتان لهما أثر كبير على العالم النامي، وهما: تصاعد صراع القوى الكبرى على قيادة العالم، وانشغال تلك القوى بنفسها وانغلاقها، إلى حد كبير، نحو الداخل.
تشير العديد من التقارير إلى أن صراع القوى الكبرى قد ازدادت حدته بعد هذا الوباء؛ نظرا للتفاوت الكبير في حجم الضرر المتوقع أن يلحق بهذه القوى، وفى مدى قدرة المجتمعات على تحمل تبعات هذه الأضرار، نظرا للتفاوت الكبير في طبيعة نظمها السياسية والاقتصادية.
وترى تلك التقارير بأن من يخرج أولا من محنة كورونا سيتمكن من تحقيق نقاط هائلة على سلم السيطرة. وهو ما ستتبدل معه الكثير من التحالفات وظهور تكتلات اقتصادية وسياسية جديدة. من ناحية ثانية، فقد جعل كورونا تلك القوى مشغولة بنفسها، إلى حد كبير. كما أنه قد قلص تطلعاتها وقدراتها الاستعمارية؛ فبجانب انشغال الجيوش في المشاركة في عمليات مجابهة الوباء داخليا، فإن انتشار الوباء داخل الجيوش، وخاصة على حاملات الطائرات، يحد بشكل كبير من سطوتها العسكرية الخارجية.
ويكفى هنا أن نشير إلى ما قامت بهد العديد من هذه القوى من سحب قواتها من الخارج. وعليه، فمن المتوقع أن تتقلص الأطماع الاستعمارية للقوى الكبرى لصعوبة تحقيقها. كما أنها قد صارت أكثر حاجة إلى التعاون لتحقيق نمو اقتصادي أفضل. كما أن الخيار العسكري في حل نزاعاتها، أو تحقيق أطماعها، قد صار أبعد مما كان عليه في أي وقت مضى.
وأخيرا، فإن الفجوة التنموية بين العالمين، المتقدم والنامي، قد بدأت في التناقص نتيجة لانخفاض انتشار كورونا وانخفاض كلفته الاقتصادية في العالم النامي مقارنة بالعالم المتقدم. هذه المتغيرات توفر فرصة نادرة لصياغة نظام عالمي جديد أكثر عدلا؛ إذا إن التفاوض في هذه الحالة لن يكون بين منتصر ومهزوم، كما كانت الحال عند صياغة النظام العالمي الحالي، بل سيكون بين مهزوم ومهزوم جدا. هذا الوضع يوفر فرصة نادرة للعالم النامي للضغط لصياغة نظام دولي أكثر عدلا من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية.
بحكم الأزمة الخانقة اليوم، فقد أصبحت البحوث الصحية ومختبراتها العامة والخاصة مركز اهتمام العالم، وأخذت الدول الكبرى في العالم، ضمن «قمة العشرين»، وعلى رأسها السعودية، تعلن استثمارات وتبرعاتٍ كبرى لهذا المجال، ليس آخرها إعلان السعودية عن دعم لجهود مكافحة الفيروس بنصف مليار دولار، ضمن التزاماتها في «قمة العشرين» الأخيرة، وهو أمرٌ سيشهد تطوراً لاحقاً، بحيث تعود الأولوية في العالم لتصبح لحياة الإنسان وصحته، وتلك إحدى وظائف الدولة المهمة التي من الخطير التخلي عنها. أخيراً، لا توجد أجوبة ثابتة لأسئلة متغيرة، ولا توجد حلولٌ جاهزة لأزماتٍ مستجدة، ولكنه الوعي والتحليل، والمقارنة والاستقراء والاستشراف، وهي أسئلة من الطبيعي أن تأخذ وقتها من الزمن حتى تستقر على موانئ اليقين. أن النظام متعدد الأطراف سوف يبقى، وسيقف على إمكانية منظمة الصحة العالمية في القيام بواجباتها، وإعادة النظر في أداء المنظمات المتعلقة بالأوبئة عمومًا، احتمالية إنشاء منظمات جديدة في حال وجدت الحاجة إليها، قد تكون منظمة صحة عالمية جديدة أو منظمة خاصة بتغير المناخ، مع بقاء الأمم المتحدة كما هي.
أن العولمة نفسها كانت اقتصادية وإلكترونية في معظمها، وهو ما أظهر ضرورة أن يكون للعولمة ذراع اجتماعي يتعلق بالخدمات والصحة والمناخ، بالإضافة إلى تطويرها ليصبح لها جانب إنساني، مستكملًا أنه لن يتم التخلص من العولمة، في ظل تطور التكنولوجيا، ولكن سيحدث تطور، ما سيقود للتنافس بين الصين وأمريكا بعد انتهاء أزمة كورونا، وذلك لأن كليهما سريعتان في التطور.
أن يتم الاستعداد لإحداث تغييراً في النموذج الاقتصادي والاجتماعي. أن يتم إعادة بناء الثقة بالعولمة والتجارة الدولية ليحدث انتعاشا اقتصاديا يؤثر بقدرته على المنافسة في أي مكان من العالم. إن على الدول إعادة النظر في كل القوانين بما يتناسب المرحلة القادمة. إن على الدول أن تضع نظم قوية سياسية واقتصادية وصحية فريدة، بحيث تفوز على الدول التي خرجت بنتائج مختلفة ومدمرة في معركتها ضد كورونا . يجب على الجميع أن يعالجوا جراحهم وامتصاص الصدمة حتى يستمر كل شيء كما كان عليه.
وإن على ملوكنا ورؤسائنا أن يتركوا قوانا الروحية تعمل عملها الإنشائي في كياننا الجديد، وخير لهم أن يرأسوا مجتمعاً يزخر بالفضائل، من أن يكونوا على رأس أمة انطفأت فيها شعلة الحياة الكريمة لأنها فقدت في قلوبها إشراقة الروح المؤمنة.
هذا هو حكم الحق، وصدق الحديث، وفصل التاريخ، وكل انحراف عنه ضلال، وكل تجاهل له غباء، وكل محاربة له جريمة وفناء.
إن الأمم لا تبني أمجادها إلا بقوتين متعاونتين: قوة من سلاح وقوة من روح.. وأنا لا أريد بالروح تلك الانهزامية الاتكالية الواهنة التي تفر من الحياة، ولا أريد بها تلك القوة المكذوبة التي نسجها الغرور أوهاماً تملأ أدمغة الشبان الأبرياء! كلا!
إنما أعني بالروح: تلك القوة المبدعة الخلاقة التي تنشئ الحياة.. تلك الفضائل التي بنت بها أمتنا الممالك وشادت الحضارات، وخاضت بها معارك التحرير في القديم والحديث، إنها الروح المستمدة من الإيمان بالله وبشرائعه، وهي الروح التي تفقدها أمم الحضارات اليوم، فهي أبداً ما تزال تنقلب من جحيم إلى جحيم. ولن تعرف الاستقرار والسعادة إلا يوم تتعرف إلى روحنا نحن، وتتقدم لتأخذها من يدي محمد والمسيح عليهما السلام!.
إن أمتنا وهي على عتبة حياة مليئة بتكاليف الكفاح وأعباء النضال، في حاجة إلى هذه الروح التي تحبب لها الفداء، وترخص الأموال، وترغب في الصبر، وتربى على الإخلاص، وتبث في النفوس أنبل عواطف الحب والإخاء والوفاء. وإن الامتناع عن الاستفادة من هذه الروح خوفاً من الطائفية البغيضة ليس إلا جهلاً بطبيعة هذه الروح وبحقيقة أمراض هذه الأمة.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الإنسان