أحب الليمون قبل نضجه ،أحب لونه الأخضر الغامق، أقطفه قبل الآوان ،أتلذذ بفصوصه الصغيرة ، أضغط عليها بخفة ،وأضعها علي شفتيّ،وارتشف علي مهل عصيرها الحمضي ،وأنتشي بتلك القشعريرة التي تدب في جسدي النحيل ،تماما مثل ما حدث ليّ عندما لامست أصابعي ثديها الأيمن ،لأساعدها في البحث عن نملة مارقة حاولت قرصها .
تسبقني إلي المقابر بعد أن تشاهدني ألعب الكرة . لم أفهمها ،لكني كنت سعيدا وأنا أرفع عينيّ لترتطم بها جالسة علي حافة سطح بيتهم وساقاها تتدليان،كشجرتي بلوط.
لم يكن أحد يجرؤ علي النزول لملعب الجمعية الزراعية قبل خروجي من الدار للشارع ، يتجمعون أمام الباب مبكرا ،و أنا بالداخل مطمئن ومنتشي بانتظارهم لي.
كنت الوحيد الذي تقدم لاختبارات الناشئين بالنادي الأهلي تحت 14سنة في القرية كلها ،المرة الوحيدة التي تجرأت وسافرت للقاهرة بقطار الدرجة الثالثة .نجحت في الاختبارات الأولية ،وفاتتني المواعيد اللاحقة .أصبتُ بملعب الجمعية وظللت أعرج لأكثر من أسبوعين. تحلق حولي الصبية فاغرين أفواههم ،
يسألون عما رأيته في استاد التتيش ويندهشون أنني رأيت هيديكوتي وصفوت عبد الحليم وبيبو وزيزو وعبده ويونس ، لا يملون وهم كل يوم يوجهون ليّ نفس الأسئلة ،لا أعرف لماذا كنت أحتفظ بكل تفاصيل الحكايات لأضعها في حجر سعاد وقت لقاء المقابر ،وتحت نفس شجرة الليمون.
كانت علي غير كل بنات القرية ،تحب كرة القدم ، ولم يكن يمارس اللعبة غير الأولاد في القرية وعلي مضض.
أنا القادم من رائحة الليمون ، من عمق الدلتا،أجدني في ليلة واحدة ،أشاهد وصلة رقص بتخت شرقي ،تؤديها الراقصة زيزي علي مسرح الزمالك ،وفي نفس الليلة أشاهد الممثل ابراهيم سعفان يأكل كشري في روض الفرج
أقمتُ عند عبد الاله ،قريبنا الضابط المهندس ،تركني وذهب لوحدته العسكرية بجبل عتاقة ،نظم لي ليلتين باقيتين من مجموع ثلاث ليالي أقضيها عنده حتي موعد انتهاء الاختبارات الأولية ،بعدها أعود للقرية ،لأنتظر صعودي للمستوي التالي . الشقة صغيرة وجميلة ،لكنها كغرفتي بدارنا غير منظمة.أوصي زيزي أن تهتم برعايتي ،سمعتُ أنه تزوجها عرفيا بعد انفصالها عن زوجها .
سمعتها تتحدث بشأني مع شخص،وتوصيه أن يتوسط لي عند المسؤل عن اختبارات الناشئين ،قال لها لو عنده الموهبة سيمر ،قمطت حاجبيها ،ومصمصت شفتيها ،واشارت إليه باشارة محرجة،ثم سحبتني من ذراعي وهرولت،لنستقل التاكسي الذي كان في انتظارها. صحوت مبكرا ،وهي مازالت نائمة ،
خرجت لشرفة الشقة الصغيرة علي رائحة الخبز الطازج التي تهب من الفرن المقابل للشرفة ،علي الجانب الأيمن منها ،تقف بنت أجمل ما فيها ،شعرها الأسود ،خصلاته تروح وتجئ بلا نظام . صوت حليم يصدح “والشعر الحرير ع الخدود يهفهف ويرجع يطير”،تذكرت سعاد عندما كنت أقول لها”اطلقي شعرك، تخاف أن تفعل ،لكنها لا تخشي المقابر ،ولا تري في حركة ساقيها العاريتين المتدليتين ،شيئا كريها “.
طابور الخبز طويل جدا ، النحيف مثلي يبدو كخاسر في معركة لم يخبرها من قبل ،ولم يعتد الطرق الملتوية،أفكر في عمل استهلك به الوقت ولا يضيع عليّ موقعي من الطابور ،إن خرجت مثلا لشراء مجلة “الأهلي” ،سيضيع دوري . من الأفضل أن أستغرق في الحُلم ،وأفكر في “بنت الشرفة والشعر الحرير ” ، لماذا رغم الموسيقي واللحظة التي ظننتها مواتية،ومحاولاتي المستمرة للتحدث معها،وابتساماتي المتتالية ،لم تعيرني اهتماما?
يسير الطابور في خطين متوازيين ،كقضيبي القطار لا يلتقيان ،يختلفان في الطول ،طابور الرجال طويل جدا ،والآخر للنساء قصير جدا ،البائع يحرص علي الالتزام ،رغم الاستثناءات المتلاحقة رغما عنه.
فجأة وجدتها في طابور النساء ،ترتيبها الثالثة ، هرولت ناحيتها ، وقفت أمامها وقلت:
– ممكن تجبيلي معاك خمسة أرغفة ؟