في ظل تنامي ظاهرة العولمة فمن المتوقع أن يستمر المال في دوره المسيطر لكن قد تتم ممارسة السيطرة بطريقة مختلفة لأن أشكال التنافس وعلاقات القوة بين الدول سوف تتطور. والتغيرات المستقبلية للاقتصاد العالمي من زاوية العلاقات بين القوى الاقتصادية الكبرى أن المجتمع الدولي ليس إلا ساحة سباق نحو القوة وأن مبدأ توازن القوى هو الوسيلة الوحيدة الممكنة لتحقيق شيء من العدالة والتخفيف من حدّة لعبة الأنانيات والسلطة، رغم أن هذا المبدأ متغيّر وغير مستقر ويعجز عن منع النزاعات المسلحة بين الدول.
“السياسة هي مجال السلطة والعمل السياسي هو الكفاح من أجل القوة” وأن “أساس السياسة الخارجية لكل دولة هي المصلحة الوطنية المصاغة بمفردات السلطة والمصلحة الوطنية مطلقة في حين أن السياسة الدولية نسبية”. لذلك يمكن التوفيق بين السياسات بفضل الدبلوماسية والتي هي، بنظره، فن إقامة أهداف محددة ممكنة التحقيق في نظام دولي يتّسم بالانقسام والتخاصم.
فالبلد الغني، بكل بساطة، لا يحتاج للمساعدة ولا يضطر للخضوع إلى الشروط السياسية التي ترافق عادة مثل هذه المساعدة. ومن المعروف أن صندوق النقد الدولي (على سبيل المثال لا الحصر) يتدخل بشكل سافر في شؤون الدول التي يقدّم لها المساعدات المشروطة. والدول الكبرى تلجأ إلى المساعدات كشكل من أشكال الهيمنة على الدولة الصغرى.
إن ظاهرة القوة العظمى قديمة قدم التاريخ نفسه. والدولة الأقوى أو الأعظم هي، ببساطـة، تلك التي تملك ما لا يملكه منافسوها من وسائل وأدوات القوة. “فالقوة السياسية علاقية ونسبية ولا تظهر إلا في ظل علاقات بين وحداتها. ولا يمكن وصف الدولة بأنها ضعيفة أو قوية إلا مقارنة بدول أخرى وفي مواقف معينة. وهي ذات طبيعة تراكمية وتحويلية. بمعنى أن امتلاك مقدار منها يؤدي إلى امتلاك مقدار آخر، وأنه يمكن تحويلها من شكل إلى آخر واستبدالها بقيم أخرى”.
وهكذا مثلاً فمن العبث قياس قوة دولة ما بالمطلق، أي وفقاً لمعايير محددة جامدة. فالولايات المتحدة هي الدولة الأعظم فقط قياساً بقوة باقي دول العالم في الوقت الراهن. وبريطانيا اليوم هي أقوى وأغنى مما كانت عليه في القرن التاسع عشر عندما كانت الدولـة الأعظم التي تكتب قواعد التجارة الدولية وتسير وفقاً عليها بقية دول العالم. رغم ذلك فبريطانيا اليوم “قوة عظمى ناقصة” لا تملك ما تملكـه الولايات المتحدة من وسائل القوة.
وتعتبر الشراكة العابرة للمحيط الهادي مثالاً ممتازاً على هذا الأمر، التي مزقها ترمب لدى دخوله المكتب البيضاوي عام 2017. الحقيقة أن التنافس مع الصين وتمييز أنفسنا عن منظومة القيم الصينية، يستلزم إعادة هيكلة الشراكة العابرة للمحيط الهادي والبناء عليها. المؤكد أن للصين حدوداً. وربما كانت تصرفات بكين داخل هونغ كونغ، المستعمرة البريطانية السابقة، سبباً في إغلاق المملكة المتحدة أسواقها أمام شبكة «هواوي» للجيل الخامس. ومع مرور الوقت، من المحتمل أن يصبح الأوروبيون ساخطين على نحو متزايد تجاه السجل الصيني بمجال حقوق الإنسان. ورغم أن البعض قد يبالغ في تقدير القوة الناعمة، فإنه تبقى لها أهميتها. والدرس المستفاد هنا أن إمبراطورية الصين الجديدة أمر تتعذر مقاومته فقط إذا لم تطرح الولايات المتحدة بديلاً.
والقوة الاقتصادية تسمح بالتحول نحو القوة العسكرية أو، على الأقل، تحمل كلفة حيازة مثل هذه القوة العسكرية. فخلال الحرب الباردة أنفقت الولايات المتحدة على قوتهـا العسكرية أكثر بكثير مما أنفقه الاتحاد السوفياتي ولكن اقتصادها سمح لها بتحمل الكلفة ويفيدنا التاريخ الحديث بأن قوة الدول تبنى، قبل كل شيء، على قواعد صناعية. ويمكن شرح انحطاط الدول من خلال فقدان الفاعلية الاقتصادية وانهيار الأجهزة الإنتاجية الوطنية. وقد أصبحت إنكلترا في القرن الماضي قوة اقتصادية مهيمنة لأنها كانت البلد الصناعي الأول وحققت تقدماً كبيراً على منافسيها.
فمع اثنين في المئة فقط من سكان العالم عام 1860 أنتجت المملكة المتحدة أكثر من خمسين في المئة من الإنتاج الصناعي العالمي، خصوصاً في القطاعات الاستراتيجية من النسيج إلى صناعات الحديد والصلب تمارس الدول لعبة القوة عبر وسائل وأدوات: دبلوماسية وعسكرية واقتصادية بالإضافة إلى وسائل أخرى “خاصة”.
فالحذاقة السياسية والدبلوماسية، في كثير من الأحيان، تبدو أجدى وأنفع من القوة العسكرية. والانتصار العسكري لا يجدي نفعاً في غياب دبلوماسية تجيد قطف ثماره. وكأداة من أدوات قوة الدولة فإن أبرز ما تسعى إليه الدبلوماسية هو صياغة التحالفات وعقد الاتفاقات، والتي برهن التاريخ الدبلوماسي بأنها كانت دوماً مؤقتة ومتغيرة ومتبدلة.
والولايات المتحدة تربعت على عرش القوة العظمى، في النصف الثاني من القرن العشرين، بفضل هيمنتها الصناعية وتفوقها في مجالي التكنولوجيا وإدارة الأعمال. وفي عام 1970، في قمة سيطرتها، أنتجت 45 في المئة من الإنتاج الصناعي في العالم غير الشيوعي وكان عدد سكانها يشكل عشر (10/1) سكان العالم.
مضي القرن العشرون بعد أن خلّف وراءه تحولات جذرية تربك المحلّلين والدول؛ لكنه ترك أيضاً كوابح وضوابط وخطوطاً حمر. فالارتباط النقدي العالمي المتبادل يشكّل سقفاً للتنافس والتصارع المالي والتجاري بين الدول الفاعلة في الساحة العالمية. دلّ على ذلك الأزمة التي عصفت بالبورصة العالمية في تشرين الأول 1987 وبعدها بعشر سنوات بالضبط في منطقة آسيا الجنوبية – الشرقية. لقد بدت البورصات العالمية كأحجار الدومينو إن سقط الواحد صعب على الآخرين تدارك السقوط وتحاشي فعل “الذبذبات الارتدادية”
بحسب تعبير رجال المال والأعمال. كذلك فالسلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل المنتشرة في العديد من الدول تضع كوابح فاعلة أمام انفجار الحروب الكبرى. والظواهر العديدة العابرة للقارات والأوطان مثل المخاطر البيئية والمخدرات والمافيات والأمراض وغيرها تزيد من الهموم المشتركة بين الدول.
لكن كل ذلك لا ينفي أن الصراع بين الدول سيبقى قائماً والتسابق نحو القوة أيضاً؛ تماماً كما كان الوضع بالأمس وقبله وعبر التاريخ. فالدول سوف تستمر في سعيها للحصول على المزيد والمزيد من وسائل القوة وأدواتها.
وسوف يستمر السباق نحو مركز القوة الأعظم، الإقليمية، والدولية إذا أمكن، في عالم تحكمه المصلحة والأنانية الفردانية ويفتقر إلى العدالة والكفاء. وستبقى البلدان الفقيرة والضعيفة محط أطماع القوى الكبرى الباحثة عن الأسواق والنفوذ والموارد الطبيعية. من ستكون هذه القوى الكبرى في “النظام الدولي الجديد”؟ وهل ستحكم هذا الأخير أمادية أم ثنائية أم تعددية قطبية؟ كل الدول “النافذة” أو الكبرى تمتلك من العناصر الجاذبة ما يؤهلها لاعتلاء سدّة النظام العالمي المقبل. وفي المقابل تنوء جميعها تحت عدد من العناصر الطاردة ما ينأى بها عن الفوز في سباق القوة الأعظم. وفي الوقت الذي لطالما كانت الولايات المتحدة، من الناحية التاريخية، قوة تبشيرية حول العالم، وتعمد إلى نشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا تبدي الصين مثل هذه الدوافع. وتتعاون الصين مع أنظمة أخرى بغض النظر عن القيم التي تنتهجها، أو كانت استبدادية أم لا – سواء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لا يهم. وعليه، فإنه في الوقت الذي تسعى فيه الصين لإسقاط الهيكل الهرمي الحالي للقوى العالمية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، فإنها في الوقت ذاته قوى إمبريالية متصالحة مع الوضع القائم.
وعلى خلاف الحال مع الولايات المتحدة، التي كثيراً ما سعت لتغيير الهياكل الداخلية ومنظومات القيم داخل الدول التي تصنفها استبدادية، لم تسعَ الصين من جانبها نحو إحداث أي تغييرات في الترتيبات الداخلية للدول الفردية.
جدير بالذكر أن الصين شاركت في مشروعات لتنمية موانئ في ميانمار وباكستان، وكذلك مع اليونان وإيطاليا الديمقراطيتين. أما التحالف الصيني مع روسيا فربما تكون علاقته أكبر بالاعتبارات الجيوسياسية للغاز الطبيعي عن حقيقة أن البلدين اليوم يمثلان أنظمة ديكتاتورية.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان