على جانب الشاطئ تتسامق أشجار اللهف في مواجهة الشمس و الرياح ، فوق الغصن المتدلي طائرٌ يشدو بصوت جميل ، يبدو أنه قادم على طيور الغابة ليُحسن ضيافة الغريب .
يتحلق الأطفال حول الشاطئ ، يدورون ، يقفزون ، يبتنون سفناً و يسافرون بعيداً بالخيال ، فيظهر من بعيد العملاق ، يتقدم كأشرعةٍ البحر الهائجة ، يصفقون إنها السفينة لكنها بلا رايةٍ أو صارية ، فيضحكون إنه الحوت العملاق ، هل وقع أسيراً لدينا ؟
لكنه حينما وصل لرمال الشاطئ تبينوا إنه النصب التذكاري العملاق ever Green ( ايفر جرين ) .
هكذا تماماً و بدون مبالغة كانت مشاهدة الاطفال الريفيين على شاطئ القناة لما حدث مع السفينة الجانحة العملاقة التي جنحت في القطاع الجنوبي من قناة السويس قبل اسبوع مضى ، وسط رياح قوية قُدرت سرعتها بأربعين عقدة ، مما عطل حركة الشحن العالمية في أحد أكثر الممرات البحرية ازدحاما في العالم .
الحدث كان عالمياً و تداعياته عظيمة و قوية على المستويين المحلي و العالمي ، إلا إنني لن اتناولها لعدم اختصاصي بهذا الشأن ، لكني وجدت فيه مفارقات لطيفة جداً و مضيئة ، تشبه الصدف الكاشفة التي تكون مزيجاً من الأضواء الواضحة و الظلال ، و التي تجعلنا نرى بعداً رابعاً للأشياء ، و سأحدد ما رأيته كبعد رابع للحدث
أولاً : وحدها الريح تخبرنا بمصائر الأشياء
يرجح الحادث إلى الرياح التي هبت، كانت سبباً في وقوعه حيث كانت حوالي 40 عقدة رغم ان قواعد الملاحة تسمح لسفينة بهذا الحجم بالإبحار في ظل هذه الظروف. و مهما كان السبب الذي ستسفر عنه التحقيقات المستمرة الى الآن من هيئة القناة ، و مدير سفينة الحاويات و نادي الحماية و التفويض البريطاني
إلا انني قصدت بالرياح هنا الشدائد التي ألفها الشعب المصري على مر التاريخ ، و التي طالما تُظهر معدنه الصامد و إرادته الصارمة و حلوله دوماً البسيطة التي تفك اربعين عقدةً و عقدة ، فمن عاش في العواصف لا يخاف الرياح
ثانياً : وحدهم الفقراء من يشهدون الأحداث العظيمة
لا أدري ما سر تلك المفارقة الملازمة للأحداث العظيمة ؟ ، لماذا ينعم بها الفقراء ؟ هل ليتحقق قوله تعالى ( لتكونوا شهداء على الناس ). ؟ ربما ، كل ما يثير اللطافة في الموضوع ، أن الاطفال نشأت بينهم و بين العملاق العالمي الذي يحمل حاويات بمقدار مليار دولار ، صداقة ، فأخذوا يلعبون ( الغميضة ) تحت أضواء الكاشفات منبهرين بألوان الحاويات ذات الألوان الأزرق و الأحمر و الأخضر ، كما حظي سكان القرى بالمقاعد الأمامية لمتابعة الحدث العالمي و تداعياته
هل في ذلك إشارة لبساطة الإنسان في ظل الأربعين عقدة و عقدة ؟
ثالثاً : وحدها الإرادة الوطنية من يحل العوائق العالمية
السفينة الجانحة أعادت الأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها القناة باعتبارها أسرع الطرق الملاحية التي تربط الشرق بالغرب ، و تمثل ١٢٪ من حجم التجارة العالمية ، كما ان التعقيد الفني الذي أحاط بعملية التعويم دون المساس بجسد السفينة أو حتى اللجؤ لتفريغ الحمولة الذي كان يُعد سيناريو معقداً لحل الأزمة و القدرة على حلها ببساطة و بسواعد مصرية أعاد الذكرى ١٥٢ للأجساد المصرية التي حفرت القناة و التي دافعت عنها عبر التاريخ مروراً بالعبور العظيم و التطهير فيما بعد العبور ١٩٧٣ ، بعدما تحول المجرى الملاحي لسلسلة من الخرائب و الألغام و القنابل ، مما جعل تطهير القناة و اصلاحها تحدياً ضخماً و عظيماً أمام الإرادة المصرية التي نجحت في انتشال العوائق والمعدات الغارقة بعد أن طلبت الشركات الأجنبية 50 ألف دولار عن كل يوم عمل . وبعد دراسات طويلة استقر الرأي على إسناد العملية للفريق الوطني الذي احرز النتائج سريعة فتم انتشال ناقلة المياه الكونجو وسفينة الإنفاد الجمل وقاطرة أخرى كبيرة في وقت قياسي أقل من الزمن المتفق عليه وبتكاليف أقل بحوالي مليون و200 ألف جنيه عما كانت تطلبه الشركات الأجنبية وبمعدات أقل. ثم توالت إنجازات الفريق . وفي فبراير 1974 بدأت مشاركة القوات البحرية في عمليات تطهير القناة من الألغام حيث تم تشكيل فريق عمل من 100 رجل من ذوي الكفاءة العالية قاموا بتنفيذ 95% من عمليات التفجير تحت الماء أو على الشاطئ وانتشلوا 420 من الحطام والبقايا التي دارت عبر وفوق القناة وأمضوا 180 ألف ساعة تحت قاع القناة ونفذوا واحدة من أكبر وأسرع عمليات التطهير في العالم، وخلال ما لا يزيد على 6 أشهر حولوا سد الدفرسوار المنيع إلى تلال من الخرسانة والخردة على الشاطئ الغربي للقناة، بتكاليف لم تزد وقتها على 238 ألف جنيه، وبيعت الخردة الناتجة بحوالي 100 ألف جنيه، أي أن التكاليف الفعلية لم تزد على 138 ألف جنيه، وحقق الرجال بذلك وفر 4 ملايين جنيه كانت ستتقاضاها الشركات الأجنبية لو نفذت العملية وخلال شهور قليلة أُعلن أن قناة السويس هي أنظف مجرى ملاحي في العالم. وعادت حركة الملاحة للقناة
كما عادت حركة الملاحة مرة أخرى بعدما وقع العملاق أسيراً لدينا .
لتصبح الإرادة المصرية تمضي حيثما يقرر المصريون ، و سلاماً يا بلادي .