إن موت الضمير لا يسبب أذى لصاحبه فقط، بل آثاره تسري في عموم جسد المجتمع؛ لأن الضمير الميت آفة قاتلة فتاكة تماماً كالإرهاب. ولهذا، فإن إحياء الضمير يُعد من المطالب الضرورية لإعادة إنعاش البلاد.
أن غياب الضمير يعوضه القانون، ولكن حضور الضمير لا يمكن أن يحكم المجتمع ولا يمكن لمجموعة صغيرة ذات ضمير حي أن تقود المجتمع كله ولا يمكن الركون إلى المقولات التي ثبت أنها ستار للمصلحة وأنها حق أريد به باطل وهو أن الضمير هو الأساس وأن القانون هو كلمة الله، بل إن بعض الدول كانت لفرط إسلامها المزعوم تحظر استخدام كلمة القانون ثم زالت عنها حساسية استخدام كلمة القانون وسارت في طريق يسمي الأشياء بأسمائها.
والبلدان المتقدمة هي التي يمتلك زعماؤها ومواطنوها ضمائر حية فاعلة، والبلاد المتخلفة هي التي ينتشر فيها القتل والإرهاب، وهي التي أُصيبت بنكبة موت الضمير لدى نسبة ليست قليلة ممن يمتلكون مناصب رسمية مؤثرة في الحياة الإنسانية العامة.
أن نمط الشخصية الذي يترابط أكثر من غيره من الأنماط الأخرى مع التمتع بصحة جيدة هو نمط «الشخصية حيّة الضمير». ووجَدَت إحدى الدراسات أن الأشخاص الذين تم تقييمهم في عمر ثماني سنوات من قبل آبائهم ومدرسيهم هم من ذوي الضمائر الحية ويكونون في العادة مستقبلاً من الأشخاص الأطول عمراً.
وأستدرك لأقول إن هذا لا يعني أن كل كبار السن ذوو ضمائر حية، فبعض هؤلاء يتزوج بنات في عمر حفيداته! وسمعت أحدهم يقول ساخطاً: لقد انتهت صلاحية الضمير في هذا العصر المعقد!
وقد يكمن التفسير البديهي للارتباط بين الأشخاص من ذوي الضمير الحي وصحتهم الأفضل، في وجود عادات صحية سليمة لديهم. وقادت بعض الدراسات إلى مثل هذا الاستنتاج، إذ ظهر أن الأشخاص من ذوي الضمائر الحية يميلون إلى الالتزام بالعادات الصحية في الطعام والنوم والعمل.
ويمكن أن يدمر التوتر الصحة، وبمقدور الشخصية ذات الضمير الحي أن تتفادى الوقوع فيه، بينما تنجذب الشخصية العصابية نحوه. كما أن الشخصية ذات الضمير الحي قد تكون ناجحة في بلورة خياراتها المهنية وصداقاتها واستقرار الزواج وكثير من جوانب الحياة الأخرى التي تؤثر في الصحة والعمر. حين يغيب الضمير نجد الذين يمارسون السياسة لا يقصدون منها سوى غايات شخصية،
ونجد من يمارسون التشهير والقذف والتحريض ونشر الكراهية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومنهم من يتجاوز كل الحدود والأخلاق وكأنهم يمارسون مهمة وطنية، وحين نجد من يشحن أفئدة الفقراء والمساكين بالكلام عن أولوية الحق لهذه الفئات وهم يستغلونهم ويستثمرون حاجتهم، ويحولون دون استدراك ما هو ضروري، وحين يبالغ البعض في الأمل ولا يجد منه سوى المغالاة في الخيبة،
يحدث ذلك واكثر حين ينعدم الضمير.. السكوت، الانتهاز، الهروب، النفاق، التغافل، التواطؤ، الانضمام الى ما يشين سراً او علناً او بالواسطة هو مشترك في تغييب الضمير، او سبب إضافي للحاجة الى صحوة ضمير. فهل تصحو الضمائر الميته ماذا تنظرون يا أصحاب الضمائر الحية.
إن المكسب الحقيقي لكلمة التسامح التي يجب على أولئك الصنف من البشر أن يدركوها هي الثمرة السلوكية العملية في الحياة، التي ينبغي لهم أن يتخذوها منهجاً وسلوكاً، نعم (فمن ثمارهم تعرفهم) فهل تجني من الشوك عنباً؟
ولأولئك أقول متى كان التسامح قولاً لا تدعمه السلوكيات، ومواعظ وكلمات لا تبرهن عليها الأفعال، كان ضرباً من ضروب الخداع والتلاعب بمشاعر الآخرين، فالتسامح يعد هو القوة المنسية التي يمتلكها بعض من البشر، وهو الصفة المنسية لبعضهم الآخر.
ما أسهل التبشير باسم التسامح، لكن الثمار العملية له تفضح وتعري وتكشف هذا التبشير المزور! والتسامح لا يعني التنازل أو التساهل، بل يعني الاحترام والتقدير ومردوده على الإنسان مردود ايجابي في دينه ودنياه، ولكن علينا أن نضع في الحسبان ان هذا التسامح لا يتعارض مع ما نمارسه مع حقوق الآخرين،
ومادام الضمير مصدره الدين والمجتمع وقياداته الدينية فإن انقسام السلوك بين الدين المظهري والسلوك المنافي للدين وتقويض سلطة المجتمع وإفساد مؤشراته وقيمه وكذلك انعدام المصداقية في المؤسسة الدينية بسبب استلحاقها بالسلطة ومظاهر ذلك لا تقع تحت حصر فإن الضمير لا يمكن الاعتماد عليه في مصر في ضبط السلوك، خاصة بعد أن صار الناس يتعايشون مع المنكر تحت ستار الضرورات تبيح المحظورات كما أن المؤسسة الدينية تقدم لهم التبريرات اللازمة لتطويع الدين للواقع مثل إباحة الرشوة إذا كان للراشي مصلحة مشروعة ومثل تبرير الغلاء في مصر بأنه قدر الله وأن الصبر عليه من فضائل الدين وأن يأتي هذا التبرير من كبار رجال المؤسسة الدينية لذلك انتشرت موجة الإلحاد مادام الدين كما هو ظاهر بهذه الحالة يبرر ويغطي الفساد وسوء الإدارة والجشع. ومعلوم أن الضمير ليس عنصرا محددا للسلوك في الدول الديمقراطية التي يقوم فيها القانون مقام الضمير فالقانون يضبط السلوك ويخول المجتمع سلطة حماية قيامه بالقانون ولذلك فإن اجتماع الضمير والقانون هو الحالة المثالية.
وقد تمسكت التيارات الإسلامية بتربية الضمير وفقا للقيم الإسلامية والاعتماد المطلق على الضمير، فكان الواقع والانقسام في الشخصية محبطًا لهذه الدعوة ونذكر في هذا المقام أن الدين يعتمد على علاقة خاصة بين الإنسان والخالق، ولا يعبأ بالمظاهر مادام الله خلق الإنسان ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
ولذلك كان الضمير الحي على أساس الدين المفهوم فهما صحيحا يكفي في عصور الإسلام الأولى حيث كان الحديث النبوي الشريف يحث المدعي بحق مزعوم على الكف عن ذلك وأن العقاب في الآخرة، ولكن في العصور المتأخرة وما عانته الشعوب العربية من قهر سياسي على يد المستعمر والحاكم الوطني وسوء التربية وتوظيف الدين والنفاق والانحراف عن الفهم الصحيح للدين وتسخير المؤسسة الدينية لخدمة الحاكم استنادا إلى اعتقاد الناس بأنها تعظم الآخرة، وتزري الدنيا قبل أن يكتشف الناس أن ذلك هدفه أن يتركوها للحاكم إلى آخرة غير مضمونة وهذه هي الترجمة العملية لفصل الدين عن الدنيا والسياسة عن الدين.
ومعنى ذلك أنه إذا خيرنا بين الضمير والقانون، فإن القانون هو الأهم بشرط أن يكون في دولة ديمقراطية يعزز سلطة الضمير ويصنع الإنسان السوى ويرده إلى فطرته السليمة فيزدهر ضميره ويستقيم سلوكه مع القانون الذي يضعه مشرع حكيم عليم نزيه منتخب انتخابًا صحيحًا ويكرس نفسه لخدمة التشريع وتطبقه أجهزة قضائية محترمة تجمع بين القاعدتين قاعدة أن المشرع آمر للقاضي وقاعدة أن القاضي يكمل المشرع فيما غفل فيه وذلك كله للمصلحة العليا وليس لمصلحة الحاكم وبطانته. مهم أن يحرص الإنسان على ضميره وعلى تطهيره ومحاسبته والأهم مراقبته من أن يهوى به فيما لا يحمد عقباه..
نعيش زمناً غريباً موازينه مغلوبة وناسه أصبحت بلا ضمير ولا أخلاق للأسف، قد تسكت عن خطأ واضح! قد تصمت وتتوارى عن فساد يستشري ويأكل المكان! قد تعمى عينها وبصيرتها من أن تنكر منكراً..
قد تصفق لأخطاء ولتمثيل وسيناريوهات ركيكة! الضمائر طالها الفساد والعفن لدرجة أنها لم يعد لها كيان يميزها عن غيرها من بشر، فساد يستشري سريعاً، يحتاج تدخلات لاقتلاعه ولمضادات وعلاجات قد يستدرك به ما يمكن علاجه!
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان