أن “أزمة سد النهضة أصبحت تشكل تهديداً وجودياً لمصر وأن الشعب المصري قد يواجه عطشاً وجوعاً بشكل حقيقي، إن هناك أيضا وضع جديد على المستوى الأفريقي بحكم أن الرئاسة الكونغولية الجديدة للاتحاد قد تساهم بشكل أكثر نجاعة في إيجاد حل ما بين الأطراف بالرغم من أن الاتحاد ليست له القوة الكافية
ولا الآليات الكافية لفرض أي حل في هذا المستوى من النزاع لكن أعتقد إن إمكانيات الحوار بين الأطراف الثلاثة بإمكانها أن تؤدي إلى حل قد يتفق عليه الجميع، بالإضافة إلى مسألة مهمة وهي تراجع الحضور الصيني والخليجي وخاصة الإمارات، وبالتالي أعتقد أن إثيوبيا الآن في موقف أكثر ضعفاً من السابق “.
والمشكلة أن الخيارات السياسية أو الدبلوماسية المتاحة سواء لمصر أو للسودان قد استهلكت جميعاً، فهناك تعنت إثيوبي شديد للغاية وهناك مراوغة ورفض مطلق لأي اتفاق ملزم ولذلك يتصاعد الحديث عن الخيار العسكري لمصر والسودان”.
إن الوضع بات بالفعل أكثر تعقيدا وتشابكا، وكلما عرضنا على إثيوبيا مقترحا قامت برفضه، فمثلا وضعنا أمام الإثيوبيين عدة سيناريوهات لتفادي أي أضرار محتملة لسد النهضة، منها في حالة أن يكون السد العالي وسد النهضة ممتلئين بالمياه، فماذا سيكون الوضع وكيف يمكن تشغيلهما سويا؟ وماذا لو كان السدان ممتلئين وكان الفيضان عاليا وكبيرا فماذا نفعل؟ وما الكمية المتاحة للتخزين والتصريف؟
إن مصر خلال العام الماضي قد تحركت بفاعلية ونشاط في إقليمي حوض النيل والبحر الأحمر على المستويين السياسي والعسكري، حيث أقدمت على خطوات للتعاون العسكري مع دول الطوق الإثيوبي، ومنها أوغندا أخيراً، طبقاً لما أعلنته القوات المسلحة الأوغندية، وهي الخطوة التي ستنعكس على جنوب السودان في تقديرنا في مراحل مقبلة، في ضوء تحفظاتها النسبية راهناً على القيام بانحيازات واضحة بين أطراف أزمة سد النهضة، على الرغم من الزيارة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى هناك، وطبيعة الدعم التنموي الذي تقدمه القاهرة لجوبا في هذه المرحلة، كما طورت مصر علاقاتها بالكونغو، وهي الدولة التي تملك علاقات إيجابية بمصر تم التدليل عليها بعدم التوقيع على اتفاقية عنتيبي، التي رفضتها كل من مصر والسودان.
وفي إطار هذه التحركات أيضاً قامت قطاعات من الجيش المصري بزيارات لكل من جيبوتي وأرض الصومال، في محاولة للضغط على الرئيس الصومالي عبدالله فرماجو الذي يتحالف مع أديس أبابا من ناحية، وتحجيم النفوذ التركي ودخول ملعبه الصومالي من ناحية أخرى.
إن الجانب المصري افترض أيضا سيناريو في حالة ما إذا كانت المياه في السدين متوسطة وكان موسم الفيضان متوسطا. “كما افترضنا سيناريو آخر وهو في حالة ما إذا كان السدان منخفضين في المياه وجاء الفيضان منخفضا فمن يحق له الملء والتخزين أولا، ومن يحق له الملء والتخزين بعد ذلك؟ وكل هذا مع مراعاة حالة السدود السودانية أيضا”، أن إثيوبيا لم تجب عن كل تلك الأسئلة، ولذلك طلب الوفد المصري والسوداني بضرورة التنسيق والاتفاق أولا قبل الملء الثاني أو حتى تشغيل سد النهضة مستقبلا.
على أي حال على الرغم من التحركات الإقليمية المصرية على المستوى العسكري خلال العام الماضي، فإن الاستراتيجية المصرية تسعى لتجنب المواجهة مع إثيوبيا قدر الطاقة، والاستمرار في عمليات الاحتواء السياسي لها، والتأكيد على فرص ذهبية في التعاون التنموي الشامل معها بالتوازي مع استخدام أوراق الردع في تحركاتها الإقليمية مهما ارتفعت تكلفتها، ولعل ذلك التقدير الاستراتيجي هو ما يفسر طبيعة الخطاب السياسي من جانب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي يبعد عن الاستعلاء ويؤكد علاقات الأخوة الأفريقية من ناحية ووضع إثيوبيا حتى الآن في مرتبة الشقيق من ناحية أخرى.
وفي تقديرنا، إن أسباب الركون لخطابات الاحتواء السياسي من جانب مصر إزاء إثيوبيا حتى اللحظة الراهنة تعود إلى التكلفة السياسية العالية لحرب على المياه في إقليم حوض النيل، وتأثيرها السلبي في دوله من ناحية، وتداعيات مثل هذه الحرب السلبية على الذهنية السياسية والتاريخية لشعوب النيل وهو ثمن تسعى مصر جاهدة ألا تدفعه في سبيل حماية حق الحياة للمصريين، وذكره الرئيس السيسي حين تحدث عن تكلفة الحلول العسكرية.
السبب الثاني، أنه مهما كانت الموازين العسكرية في صالح مصر ضد إثيوبيا فإن إمكانية دخول أطراف إقليمية هذه الحرب غير مستبعد سواء بالدعم المالي أو العسكري، الأمر الذي يوسع من المواجهة ويجعل تطوراتها ربما رهناً لظروف قد تكون غير واضحة في اللحظة الراهنة، ولا تتحكم فيها القاهرة إجرائياً.
ثالثاً، ربما يكون التعويل على التدخل الدولي على الرغم من عدالة موقفي دولتي المصب مصر والسودان ودفاعهما المشروع عن الأمن الإنساني لشعوبهما تحت مظلة صفقات أو متباطئ، وهو ما يجعل مصر لا تعول عليه كثيراً، وتفضل التفاعل الإقليمي المباشر بين أطراف الأزمة، خصوصاً أن إدراكات إدارة بايدن لطبيعة الأزمة وتفاصيلها تبدو متأخرة مقارنة مع نظيرتها الترمبية في ضوء طبيعة التضاغط الذي جري بين الإدارتين على خلفية مجريات الانتخابات الأميركية.
وعلى الرغم من هذه الحسابات المصرية، التي تقدر التوازنات الحرجة للتدخل الدولي فإن وزير الخارجية الروسي ألكسندر لافروف، من المنتظر أن يحضر إلى القاهرة خلال أيام بشأن سد النهضة، وهو ما شكل نوعاً من أنواع التحريض على تحرك أميركي في ذات الملف، تم الإعلان عنه مباشرة مع الإعلان عن فشل مباحثات كينشاسا في الكونغو، حيث من المتوقع أن يصل إلى المنطقة وفد أميركي في محاولة لتطويق تصاعد التوتر الذي جرى في ملف سد النهضة والوصول إلى ضوء نهاية النفق.
مشروع سد النهضة يتداخل فيه العامل السياسي مع الجانب الاقتصادي، فالمشروع في غايته المتكاملة اقتصادي وسياسي وحضاري. ففيما يتعلق بالجانب السياسي فهو ذو أبعاد دولية ضمن الدور الإقليمي لإثيوبيا المرتبط بمصالح أميركية – غربية.
وضمن هذه الحيثية ترى بعض الأوساط أن تغيراً “جيواستراتيجي” يرتبط بالمشروع في التحول الذي تنشده إثيوبيا من دولة فقيرة إلى دولة متوسطة، وهو تخطيط بقدر ما يتبناه الطموح الإثيوبي تساعد على تحقيقه أطراف دولية ضمن مصالح وترتيبات ومتغيرات تهتم بمنطقة القرن الأفريقي في بعدها السياسي الذي يوظف مستقبلاً لأدوار حيوية.
أما الجانب الاقتصادي، فهو ما تصرح به القيادة الإثيوبية كون غاية سد النهضة توليد الطاقة الكهربائية لتنمية مجتمعاتها الريفية، حيث ظلت إثيوبيا من أكثر الدول التي عكست مأسي القرن الأفريقي في فقره ومجاعاته، ومن ثم فإن أهم الغايات لمشروع سد النهضة وفق الرؤية الإثيوبية المطروحة، تحقيق نهضة اقتصادية لطي حقب الفقر والمجاعات التي عانتها إثيوبيا على مدار العديد من الأعوام.
وارتباط المشروع باسم النهضة له دلالته:
– يمثل إنتاج الطاقة هدفاً أساسياً لسد النهضة، وتبلغ الطاقة الكهرومائية المتوقع إنتاجها من السد بـ6 آلاف ميغاوات، وهي تمثل ثلاثة أضعاف الطاقة الإثيوبية المنتجة حالياً. ومن أهم الخطط التنموية تغطية الأرياف الإثيوبية بالطاقة، وإدخال العديد من مناطق إثيوبيا إلى دائرة المدنية، ومن ثم مضاعفة إنتاجها سواء من الناتج الزراعي الذي يحتاج إلى الطاقة في عمليات الري في بعض المناطق المروية كالإقليم العفري في إنتاج الحبوب وبخاصة القمح الذي نجح الإقليم في إنتاجه بكميات كبيرة، كما تفعيل الطاقة المتوفرة في الأعمال والاستخدامات التنموية الأخرى، مما يدفع بعجلة الإنتاج.
وتشير الحكومة الإثيوبية ضمن إحصائياتها أن ما يقدر بـ65 مليون مواطن إثيوبي يعيشون من دون كهرباء. فما يحققه سد النهضة لتلك المجتمعات ربطها بعجلة التنمية، والنهوض بها من خلال ما يوفره سد النهضة من طاقة رخيصة التكلفة.
– يضاف إلى ذلك ما تنشده إثيوبيا من عائدات تصدير الطاقة إلى دول الجوار، والذي بدأته فعلياً مع دول كجيبوتي والسودان وكينيا.
– توفير المياه في إقليم السد (بني شنقول)، والذي تعاني فيه بعض المناطق من العطش، إلى جانب استفادة الإقليم من المياه المتوفرة على مدار العام في استخدامات المشاريع الزراعية التي بدأ التجهيز لها خلال الأعوام السابقة. ورغم أن تلك المشاريع التي وزعت فيها الحكومة الإثيوبية حيازات متوسطة لأبناء الإقليم، وغيرهم من المستثمرين الإثيوبيين، فإن مصادر اقتصادية تتوقع نهضة زراعية بالإقليم الذي تتميز أراضيه بالخصوبة والإنتاجية العالية للعديد من المحاصيل بخاصة الأنواع المختلفة من الذرة، والحبوب الزيتية إلى جانب الفاكهة والخضروات.
إلى جانب المنافع الإثيوبية فيما يحققه سد النهضة من تحول ونهضة اقتصادية حضارية، يتوقع أيضاً أن يكون من ضمن الفوائد أبعاد إقليمية في تبني مشاريع كبرى لإقليم السد الجامع بين البلدان الثلاثة إثيوبيا والسودان ومصر من خلال مشاريع تكاملية توظف فيها المكاسب الجغرافية والقدرات.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان