نعم..النيل من الجنة ويجري بأمر الله.. نعم النيل يسير إلى مصر بأمر من الله..وما يجريه الله لا يوقف جريانه أحد..هذه رسالة واضحة واثقة من الرئيس عبدالفتاح السيسي ليس لشعب اثيوبيا فقط ولكن لكل العالم..ولم تكن المرة الاولى التى يقول فيها الرئيس هذه الرسالة بل قالها حرفيا مرات منها:خلال افتتاحه مجمع الإصدارات المؤمنة والذكية مؤخرا وقالها بوضوح في 23 مارس 2015في العاصمة السودانية الخرطوم في مؤتمر صحفي على الهواء مباشرة:”قلت لرئيس الوزراء الإثيوبي إن النيل يسير إلى مصر بأمر من الله”.
وهذا واحد من الابعاد الرئيسية التى تغيب عن الكثيرين وله اهميته على مختلف الاصعدة.وكون النيل نهر علوي وله قدسية وله ارتباط بالسماء وانه ينبع من الفردوس في الجنة مسألة ليست طارئة بل راسخة في العقل والوجدان الانساني على مر العصور ولازمت ليس فقط المصريين على ضفاف النيل بل كل السكان الذين يمر بهم النهر من ابناء الحضارات المتعاقبة من قديم الازل.
وبلغت درجة التقديس ان جعلوا للمياة الها خاصا الاله” نون” رب المياة الازلية وكان الفراعين وغيرهم من الامم يصلون للاله امون من اجل الفيضان باعتبار “امون” هو رب الارباب والالهة التي تنزل المطر فيمتلئ النيل.
تشير المصادر التاريخية الى ان قدماء المصريين عبدوا النيل وكان هناك عدد من الآلهة المرتبطة بالنيل كالإله “خنوم” والإله “حابي” روح النيل و “أوزيريس” إله خصوبة الأرض والنماء والزرع الذي تبكيه الإلهة “إيزيس” ليلة “الدّمعة” فقد كانوا يعتقدون أنّه في مثل هذا الوقت من شهر يونيو كل عام تبكي “إيزيس” زوجها وأخيها “أوزيريس” فتسيل دموعها نهرًا يشكل النيل والفيضان.
وكان الاعتقاد السائد في فترة حضارة الشهيناب (3500 – 6000 ق.م) ان النيل هو واهب الحياة للموتى فكانوا لا يقيمون مقابر لدفن الموتى وانما يلقون بهم في النيل باعتباره واهب الحياة
ليس فقط للاحياء بل للموتى ايضا واكثر من ذلك كانوا يعتبرون النيل معبرا للحياة ولذلك كانوا يعتقدون ان على المرأة النفساء والارملة لكي تعبر الى الحياة لابد ان تقوم بزيارة للنيل!وكانوا يقدمون قرابين للنيل سنويا ليجري ويفيض واسطورة عروسة النيل اكثر من مشهورة وظلت لعهود حتى ابطلها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بورقة بعث بها الى عمرو بن العاص الفاتح العظيم لمصر وواليها ردا على رسالته حول عروس النيل.كلمات قليلة سطرها سيدنا عمر في الورقة مخاطبا النيل ان كنت تجري من عندك فلا تجر وان كنت تجري بامر الله فاجر.
علوية النهر وسماويته لم يتنكر لها احد حتى مع الفتح الاسلامي العظيم لمصر بل احتفظ النيل بمكانة لها قداستها خاصة مع الاحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم عن انه من انهار الجنة وقد ورد ذكره في رحلة الاسراء والمعراج وجاءت تاكيدات في روايات عديدة انه ينبع من الفردوس الاعلى وانه من انهار الجنة التى منحها الله للارض.جاء فى حديث البخارى ومسلم عن الإسراء والمعراج قوله صلى الله عليه وسلم “ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل فلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة قال : هذه سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات”
وينقل تقي الدين المقريزي في خططه ما جاء في كتاب “غريب الحديث” لابن قتيبة أن النبي قال: “نهران مؤمنان ونهران كافران أما المؤمنان فالنيل والفرات وأما الكافران فدجلة ونهر بلخ”.
وقد ردت دار الافتاء المصرية على بعض المتحذلقة والمشككين في الامر وانه صعب التصور بما قاله الامام النووى فى شرحه لصحيح مسلم:أصل النيل والفرات من الجنة وأنهما يخرجان من أصل السدرة ثم يسيران حيث شاء الله ثم ينزلان إلى الأرض ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها.
وهذا لا يمنعه العقل وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد .ويقول عياض:الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى فى الأرض لقوله: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها وهما يخرجان من الأرض فيلزم منه أن أصل السدرة فى الأرض. أن خروجهما من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض والحاصل أن أصلهما من الجنة ويخرجان أولا من أصلها ثم يسيران إلى أن يستقرا فى الأرض ثم ينبعان.
تجدر الاشارة هنا الى ان أنهار الجنة ليست ماء فحسب بل منها الماء ومنها اللبن ومنها الخمر ومنها العسل المصفى.قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن ماء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ..[ محمد:15].وجاء في سنن الترمذي بإسناد صحيح عن حكيم بن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن في الجنة بحر العسل وبحر الخمر وبحر اللبن وبحر الماء ثم تنشق الأنهار بعد) فأنهار الجنة تنشق من تلك البحار التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم.
كبار الشعراء المحدثين والمعاصرين في وقفاتهم امام ابهار النيل وعظمته وجلاله لم يجدوا افضل من تعبيرات القداسة والارتباط بالجنة والسماء تعبيرا عن خلود النيل وبهائه وسحره الدائم الفياض لم يتوقف الامر على شعراء مصر والسودان بل امتد الى شعراء العربية حتى ترسخت تلك الصورة الرائعة فكريا وادبيا بان النيل ليس حالة مصرية اوسودانية بل حالة عربية اسلامية وهم في هذا الملمح اسبق من عتاة الساسة والمفكرين والمنظرين للقومية والعربية والاسلامية.
امير الشعراء احمد شوقي كان في مقدمة من اقروا بان النيل نبع علوي يتفجر من علياء الجنان يقول في مطلع قصيدته الرائعة عن النيل :
مِن أَيِّ عَهدٍ في القُرى
وَبِأَيِّ كَفٍّ في المَدائِنِ تُغدِقُ
وَمِنَ السَماءِ نَزَلتَ أَم فُجِّرتَ مِن
عَليا الجِنانِ جَداوِلاً تَتَرَقرَقُ
وفي قصيدة اخرى كتبها شوقي للاطفال وصف النيل :
النيلُ العَذبُ هُوَ الكَوثَر
وَالجَنَّةُ شاطِئُهُ الأَخضَر
الشاعر السوداني الكبير ادريس جماع اعتبر النيل من اودية الجنة في قصيدة جميلة بدأها بقوله :
واد من السحر ام ماء وشطآن؟
ام جنة زفها للناس رضوان؟!
وقد خاطب الشاعر التيجاني يوسف بشير النيل قائلا في بداية قصيدته محراب النيل :
انت يا نيل يا سلسيل الفراديس..
كثيرون خاطبوا النيل ورأوه رمزا للعزة والشموخ ليزداد مهابة مع مكانته وجذوره العلوية.
خليل مطران:
أَيُّهَا النِّيلُ مَا جَنَيْتَ عَلَيْهِمْ
بَلْ جَنَى جَهْلُهُمْ وَلَسْتَ مُلِيمَا
على الجارم:
النيلُ يستنجِدُ مُسْتَنْصِراً
فأَسْرعوا الْخَطْوَ إلى نَصْرِه
مصطفي صادق الرافعى:
وما النيلُ في مصرٍ سوى دم قلبها
إذا حفظوهُ دامت الروح في مصرِ
«أنا النيل مقبرة الغزاة» قصيدة رائعة كتبها الشاعر الكبيرمحمود حسن إسماعيل واول رئيس لاذاعة القران الكريم من القاهرةوغنتها المطربة والممثلة اللبنانية نجاح سلام ولحّنها رياض السُنباطى عام 1956م أيام العدوان الثلاثى وجاء ضمن كلماتها:
«أنا النيلُ مقبرةٌ للغزاة..
أنا الشعبُ نارى تُبيدُ الطغاة..
أنا الموتُ فى كلِّ شبرٍ
إذا عَدوّكِ يا مصرُ لاحَت خُطاه».
والله المستعان..
Megahedkh@hotmail.com