تمر الديمقراطية في الدول الغربية بأزمة مع أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، حيث يزداد معدل فقدان الثقة في الأحزاب السياسية، وفي السياسيين ويتجلى ذلك في عزوف أعداد كبيرة من أفراد المجتمع خاصة الشباب، عن المشاركة في الانتخابات، وفي الحياة السياسية بصفة عامة وتظهر استطلاعات الرأي العام ازدياد الاتجاهات السلبية نحو ممارسات الديمقراطية في الدول الغربية.
لكل فرد في المجتمع الحق في ممارسة حريّاته الشخصية، لكن النزوع نحو الممارسة العشوائية بحيث يتم تغليب المنافع الشخصية الفردية على مصالح الأفراد الآخرين في المجتمع، سيؤدّي إلى تصادُم أناني غرائزي بين رغبات البشر، ما يعني أن القوي يفرض جشعه على الآخرين، ويستأثر بالحقوق كافة. لذلك فرضت نظرية العقد الاجتماعي تنازل كل إنسان عن بعض حرياته إلى الدولة، التي هي بمثابة كيان ينظّم الحريات ويوزّع الحقوق بالعدل بين المواطنين. حينها يحصل الناس ما هو لهم بواسطة سلطة ملزمة لجميع الناس من دون تمييز. هذا من شأنه أن يؤدّي إلى حال يشعر فيها الجميع أنهم محكومون وحاكمون عبر انتخاب ممثليهم في البرلمانات، وفي المساهمة بصوغ القوانين، ما يوفر الإحساس بالكرامة والاحترام لدى المواطن. تماماً هذا هو الأساس الفلسفي للديمقراطية الغربية.
فكرة الديمقراطية الغربية تقوم على مبدأ إن كانت الشعوب لا يمكنها حُكم نفسها بنفسها، فلا بد من أن تقوم بانتخاب ممثّلين عنها في السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ويوجه اللوم إلى استخدام التسويق في العمليات السياسية باعتباره مسؤولا ولو جزئيا عن فقدان الثقة في العملية السياسية في الديمقراطيات الغربية، ﻷنه يستخدم أساليب التسويق لبيع الأحزاب والمرشحين للناخبين، من خلال خلق علاقة بين العروض السياسية للأحزاب والمرشحين السياسيين، واحتياجات ورغبات الجماهير، على اعتبار أن الجماهير المستهدفة بالحملات الانتخابية مستهلكون لمنتج سياسي، وهو ما أثر سلبا على العمليات السياسية في الديمقراطيات الغربية. فهل يتحمل التسويق السياسي مسؤوليته فقدان الثقة في الممارسات الديمقراطية في المجتمعات الغربية.
يهدف التسويق السياسي إلى تخطيط وتنفيذ طريقة بناء الدعم والتأييد الجماهيري لمؤسسة سياسية أو مرشح سياسي، والمحافظة على هذا التأييد من خلال خلق مزايا تنافسية لهذه المؤسسة السياسية أو الحزب أو المرشح، باستخدام استراتيجيات مخططة تعتمد على وسائل الاتصال الجماهيرية، وغيرها من وسائل التأثير في الجماهير المستهدفة.
ولا تمارس الأحزاب السياسية الأمريكية سوى سيطرة ضعيفة على اختيار المرشحين وإدارة الحملات الانتخابية التي يتولاها المرشح بنفسه. وتتركز القرارات الأساسية في استراتيجية الحملات على كيفية بيع المرشح لجمهور الناخبين، وبالتالي تركزت بحوث التسويق السياسي في الولايات المتحدة على استخدام التكنولوجيات الجديدة، وأساليب التسويق السياسي. أما في أوروبا، وفي بريطانيا على سبيل المثال، حيث الأحزاب السياسية القوية، تشارك الأحزاب ذاتها في اتخاذ قرارات التسويق السياسي وتحديد خطوط وملامح الحملات الانتخابية.
وسواء تم اتخاذ القرارات الأساسية في التسويق السياسي على مستوى الحزب أو تولاها المرشح بنفسه، فإن التسويق السياسي ليس في مقدوره وحده أن يسوق سلعة رديئة، سواء كانت هذه السلعة مؤسسة سياسية أو حزبا سياسيا أو مرشحا سياسيا، ولا يمكن أن يكون علاجا ناجحا للأمراض السياسية في مجتمع ما.
ويدعم هذا الرأي إقرار علماء السياسة البريطانيين بأن حملات التسويق السياسي وحملات العلاقات العامة لن تفيد في استعادة ثقة المواطن البريطاني بالحياة السياسية البريطانية وأحزابها وقيادتها، وأن هذه الثقة يمكن أن تستعاد فقط عندما يطرح السياسيون على المواطنين البريطانيين قيادات ووجوها أفضل، وعندما يدرك السياسيون أن مشروع الفوز في الانتخابات والحصول على السلطة هو من أجل إدارة الخدمات العامة للمواطن العادي على نحو أفضل، وتوفير قيادات أفضل للبلاد، وتحسين الأوضاع المعيشية لأولئك الذين يحكمونهم خاصة أولئك الذين يعيشون أوضاعا اجتماعية سيئة.
هذا ما تستغلّه الديمقراطيات الغربية التي تقوم بدعم الطُغاة والديكتاتوريات في المنطقة العربية، وفي المناطق الأخرى الأكثر قهراً وجهلاً في العالم، وتساندهم سياسياً وأمنياً لقمع الشعوب. وحين يرى هذا الغرب “الديمقراطي” أن مصالحه تتعرّض للخطر في هذه البلدان، سواء من قِبَل الشعوب المضطهدة، حينها يتنكّر للديمقراطية، وإن تهدّدت مصالحه من أطراف في الأنظمة الاستبدادية نفسها، فإنه حينها يرفع في وجههم راية الديمقراطية “المسكينة” التي لم تُحترم، ويتم تحريك ملفات الفساد وملفات حقوق الإنسان التي تنتهك، ليتحوّل المواطن المقهور في دول العالم البدائي إلى مجرّد أداة ضغط وابتزاز لتأمين مصالح الدول العرقية البغيضة، وحقوق شعوبها البيضاء التي وحدها جديرة أن تنعم بمكارم السيّدة “ديمقراطية”.
تعرّضت الديمقراطية لانتقاداتٍ شديدةٍ من قِبَل عقول فلسفية غربية مهمة. في كتابه “الجمهورية” ذكر أفلاطون أن معلّمه سقراط حين كان يحاضر في طبيعة الدولة المثالية، وفي سياق حديثه سأل صديقه وشريكه “أديمانتوس” إنْ كان يفضل الصعود على متن باخرة يقودها أحد الركاب، أم قبطان متدرّب وخبير. بهذه الاستعارة كان سقراط يجري مقاربة مفهوم الدولة، حيث يعترض على الحُكم الديمقراطي، وضرورة عدم السماح لأيٍّ كان بقيادة سفينة الدولة. واعتبر أن ليس جميع الناس يمتلكون الذكاء الذي يتيح لهم إدارة الدفّة. أفلاطون نفسه أشار إلى أن الديمقراطية واحدة من المراحل الأخيرة في انحدار الدولة المثالية، إذ اعتبر أنها سوف تجلب الطُغاة.
المنظومة التربوية القائمة على الحشو المعرفي والتلقين التقني للمناهج الدراسية دونما إنتاج فعلي وحقيقي يعزز من قيم المحبَّة والتسامح وقبول الآخر أيا كان توجُّهه وانتماؤه، ما أدى إلى تراجع كبير للمدرسة الجزائرية في لعب دورها الحضاري والفعال في تصدير أناس فاعلين وإيجابيين للمجتمع لتعزيز القيم التي من المفترض أن تعطيها لنا المدرسة كفضاء لا أقول تعليميا فقط ولكن كفضاء تربوي حارس للقيم إنتاجا وحماية وتسويقا.– جزءٌ من المسؤولية يتحمَّله الإعلام أيضا بمختلف قنواته وجرائده ومواقعه من خلال التوعية والتحذير الدائمين من خطورة هذه السلوكيات الخطيرة التي تهدّد الأمن النفسي والمجتمعي للشعب فالإعلام هو المرآة العاكسة للمجتمعات سواء الانعكاس الإيجابي أو السلبي، وستحل الكارثة الكبرى إذا ما انخرط الإعلام في عملية إنتاج وتسويق خطاب الكراهية والعنصرية وهذا الذي ينبغي أن لا يتسامح معه المجتمع أبدا.
– الخطاب المسجدي الذي انزوى في الجانب القصصي والشكلي من ديننا الإسلامي العظيم وشريعتنا الحضارية، بل وسقط في شراك التنميط والتكرار والخوض في المسائل التي لا ينبني عليها تقدُّمٌ أو ازدهار أو تنمية، فتحوَّل المسجد من منارة للتغيير المجتمعي العميق إلى مجرد محطة روتينية يرتادها الكثيرون ويخرجون منها كما يدخلون على اعتبار أداء الفرض لا أكثر ولا أقل، فإعادة الدور الحضاري للخطاب المسجدي كفيلٌ بمساعدة مؤسسات الدولة والمجتمع في القضاء على هذه الظاهرة المقيتة وعلى غيرها من باقي الظواهر التي خرَّبت، وما تزال تحاول، النسيجَ الاجتماعي
مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت مرتعا حقيقيا لنشر كل أنواع الكراهية والعنصرية والتطرُّف والعداء للآخر على اعتبار أنها فضاءات تقلُّ فيها الرقابة ويشعر فيها المعتدي والمتنمِّر والعنصري بحرية أكبر لأنه يمتلك صفحته الخاصة وهو من يديرها بالنشر والتسويق وهو رئيس تحريرها، فيكتب ما يشاء ويعلق عمن يشاء حتى ولو اقتضى الأمر اختباءه وراء حسابات وصفحات وهمية.
– غياب فكرة “العقد الاجتماعي”؛ هذه الفكرة المنتِجة التي جاء بها عالم الاجتماع الشهير “إيميل دوركايم” والتي تعني اتفاق المجتمع على مجموعة قيم ومبادئ وقناعات توحِّده وتجعله أكثر تماسكا ولحمة وقوة وإنتاجا ضمن منظومة من الاختلاف والتنوع الذي يزيد المجتمع قوة لا تفرقة وتشرذما وصراعا في إطار قوانين صارمة وثقافة واعية تستجيب بكل رغبة وقناعة لهذا العقد الواحد والموحِّد للشعب بمختلف انتماءاته وفي مقدِّمتها فكرة “المواطنة”، إذ نلاحظ في عديد الدول وصول مواطنين من أصول أجنبية وثقافات مختلفة إلى سدة الحكم وإلى مناصب سيادية في هذه الدول بخلفية المواطنة وليس بخلفية الأصول والجذور والانتماءات.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان