الصيام مدرسة ربانية للتربية، نتعلم فيها الصبر والإخلاص وتهذيب السلوك، فنحن لانصوم عن الحرام فقط، وإنما نصوم أيضا عن الحلال الذى هو مباح فى غير رمضان، لذلك نكون فى حاجة إلى طاقة هائلة من الصبروالإخلاص نتدرب عليها فى مدرسة الصيام، فالامتناع طوعا عن الطعام والشراب والمتع الحلال يقوى فينا عزيمة الصبروالجلد .
وإذا كان الصبر فى العموم فضيلة فإنه فى الصيام عبادة وقربى إلى الله عز وجل، كما أن الإخلاص فى الصوم سر لايعلمه إلا الله، ولذلك نسب سبحانه وتعالى الصوم إلى نفسه دون سائر العبادات والطاعات، فقال فى الحديث القدسى: ” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به “.
والصبر من أسمى آداب الصيام، فالصائم حين يتعرض لألوان من الغضب يترفع عن الرد ويلوذ بالصبر، فإذا ماغربت الشمس أحل له ماكان ممنوعا عنه من المأكل والمشرب والمتعة، وبقى الصبر وقهر الغضب هو المكسب الذى فاز به، وبقى ثواب الصبرهو المحصلة المستمرة معه بين النهاروالليل، يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: ” الصوم جنة، فإن كان يوم صوم أحدكم فلا بفسق ولايجهل، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل : إنى صائم، إنى صائم”.
ولقد حببنا الله فى الصبر وحثنا عليه، يقول تعالى:” ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا “، ويقول: ” فاصبر صبرا جميلا “، ويقول: ” ولربك فاصبر “، ويقول:” إن الله مع الصابرين “، ويقول:” واستعينوا بالصبر والصلاة “، ويقول: “وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا “، ويقول ” إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب “.
الصبر هو الأساس الذى لاغنى عنه لمن ينشد التربية الصحيحة، وهو الشرط الذى يجب أن يتوفر فيمن يريد أن يتعلم قواعد التربية، انظر كيف كان أول تنبيه من العبد الصالح لسيدنا موسى عليه السلام حينما أراد أن يصحبه ليتعلم منه: ” قال إنك لن تستطيع معى صبرا “، ثم انظر إلى موسى حين رد عليه مؤكدا: ” ستجدنى إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا ” .
والإخلاص هو الأساس الثانى الذى تقوم به وعليه العملية التربوية، فمن لم يخلص النية والسعى لن تفلح معه أية وسيلة للتربية، والصيام هو المدرسة التى تعنى بتربية الإخلاص فى النفوس، كما أن الصوم الصحيح لا يثمر إلا فى نفوس مخلصة صادقة مع ربها، يقول تعالى : ” وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء “، ويقول: ” إلا عباد الله المخلصين “.
والإخلاص له شقان متلازمان: الأول يتعلق بإخلاص الوجه لله بالاعتقاد فى ألوهيته ووحدانيته سبحانه، ولذلك سميت سورة التوحيد بالإخلاص، والشق الثانى يتعلق بدوام المراقبة لله فى السر والعلن، اعتقادا جازما بأن الله معنا أينما كنا، وكيفما كنا .
وهذان الشقان للإخلاص ـ اعتقاد التوحيد والمعية الإلهية ـ يظهران بجلاء فى الصوم، ومن أجل هذا كان الصوم هو مدرسة ربانية لتربية الإخلاص فى النفوس، فكل العبادات لها مظهر خارجى يعرف به العابد بين الناس، أما الصوم فإنه سر بين العبد وربه، لايقوم به المسلم إلا إذا كان مخلصا لله فى الاعتقاد والإيمان بمراقبة الله له فى السر والعلن .
وحين نتدبر أول آية فى آيات الصوم نجد أن فرض الصيام فيها جاء بين الإيمان فى أولها والتقوى فى آخرها، يقول تعالى:” ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، فالصيام الصحيح لايقدر عليه إلا المؤمنون الصابرون المخلصون، لا مجال فيه للنفاق والرياء، ولا هدف له ولا رجاء منه غير التقوى، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله فى أن يدع طعامه وشرابه “.
وقد وفر لنا ربنا عز وجل فى رمضان المناخ الملائم للإيمان والإخلاص حتى نصل إلى التقوى، وأخبرنا الحبيب المصطفى بأنه ” إذا كان أول يوم فى رمضان صفدت الشياطين وأغلقت أبواب النار وفتحت أبواب الجنة “، ومن ينجح فى الامتحان يكن جزاؤه مغفرة وأجر عظيم، هكذا وعد الله عباده الصالحين، وجعل الصائمين والصائمات فى مقدمة هؤلاء الصالحين، بقوله تعالى :” والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما “.
ويأتى الدعاء ركنا تربويا مكملا فى مدرسة الصيام طلبا للاستقامة والرشاد، ” وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداعى إذا دعانى، فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون “، والصيام يعلمنا الحفاظ على الدعاء والاستغفار حين نفطر وحين نمسك عن الطعام والشراب ، ويربط قلوبنا بالخالق الأعظم جل شأنه، ومن تعلق قلبه بالله فقد أدرك معناه، وذلك لقوله تعالى فى الحديث القدسى الشريف:” ما وسعتنى أرضى ولا سمائى، ولكن وسعنى قلب عبد مؤمن”.
ومن أحبه الله طهر قلبه وملأه بنوره، وأفرغه ممن سواه، فإذا مادعا دعاء مخلصا موقنا من هذا القلب التقى النقى كانت الإجابة، لقول الحبيب المصطفى:” ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة”.
الدعاء إفادة وعبادة، وقد علمنا ربنا أن ندعوه تضرعا وخفية، فقال تعالى:” ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لايحب المعتدين “، وعلمنا أيضا أن ندعوه خوفا وطمعا ، فقال تعالى:” وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين “، وعلمنا أن ندعوه باسمه الأعظم أو بأى من أسمائه الحسنى، فالعبرة بالنية فى الدعاء، قال تعالى:” قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى “.