إن الديمقراطية كفلسفة وكممارسة تعد محصلة من محصلات المشروع السياسي الحداثي. الذي يسلم بجملة من المقدمات النظرية الكبرى، وتوجهه قواعد محددة تم إبداعها ، داخل سيرورة معقدة من الصراع السياسي التاريخي العقائدي الطويل، حيث تبلورت قناعات ومبادئ سياسية جديدة، في فكر وواقع النخب السياسية المتصارعة في التاريخ الحديث والمعاصر. ومن هنا صعوبة عزل هذه التجربة عن مجراها التاريخي النظري العام، وكل عزل لهذه التجربة عن هذا المجرى، يفقرها، ولا يولد ما يكفي من التصورات القادرة على إسنادها وتعزيز مساراتها الواقعية.
تتطلب ثقافة الديمقراطية من الدولة أن يسود حكم القانون فيها، وكذلك أن يتمكن كل فرد من أن يأخذ حقوقه الكاملة بوصفه فرداً تتساوى فرصه وحظوظه مع بقية الأفراد، دونما حاجة لاعتماد الأشكال الأولية للمجتمع من العشيرة أو العائلة أو الطائفة، وجعل تلك الأشكال تنافس الآليات القانونية والدستورية للدولة. ومن دون أدنى شك، فإن التحول الديمقراطي هو تحول يصيب جميع ثنايا المجتمع، فهناك حاجة لتأسيس علاقات ديمقراطية داخل الأسرة وفي المدرسة والجامعات ومؤسسات العمل، والمؤسسات الأخرى، ومن دون ذلك يستحيل أن يحصل تغير اجتماعي، ويتم تبني الديمقراطية بوصفها منهجاً سياسياً واجتماعياً لأي دولة كانت.
وبحكم أن “الدولة” هي مصدر التفاعل، وتجري فيها معظم الأحداث، وهي المحرك الأساسي لكل التيارات التي تعيش في كنفها، فقد بات من الواضح ضرورة الحد من تقييد الحريات، والسماح للمؤسسات المدنية والأفراد والجماعات أن تأخذ دورها في التعبير عن رأيها وممارسة الديمقراطية.
على أن دور الدولة تجاه تطبيق الديمقراطية يحكمه عوامل عديدة، أبرزها نسبية دور الدولة، بمعنى قدرة الدولة أو عدم قدرتها على تنفيذ متطلبات وشروط التطور الديمقراطي. وإزاء ذلك يظهر اتجاهان متناقضان: الأول يدعو إلى وجود سلطة قوية تمارس دورها لأداء وضبط متطلبات التطور الديمقراطي من خلال الإشراف المباشر على الأجهزة والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، والثاني: يدعو إلى تقليص سلطة الدولة في الإشراف على العملية الديمقراطية، على اعتبار أن المؤسسات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني قادرة على أداء دورها في ضبط وتقييم متطلبات النمو الديمقراطي.
إن إيماننا بالحداثة السياسية، يصاحبه إيمان مماثل بنظرتنا إليها من زاوية أنها عبارة عن أفق مفتوح على كل ممكنات الإبداع الذاتي في التاريخ، فلا يمكن تصور إمكانية تحقق الحداثة بالتقليد، بل إن سؤال الحداثة في أصوله ومبادئه العامة يعد ثورة على مختلف أشكال التقليد.
إن الاقتناع بالمبادئ الكبرى الناظمة للمشروع الفلسفي الحداثي، في النظر إلى الإنسان والتاريخ والمعرفة، يتيح لنا إطارا جديدا للتفكير في حاضرنا ومستقبلنا، بصورة مختلفة عن سقف القناعات المهيمنة على ذهنياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية والسياسية، ويفتح أمامنا إمكانية تأسيس المشروع الديمقراطي، باعتباره مشروعا تاريخيا قابلا للتطوير والتجاوز، أي قابلا لبناء وإعادة بناء التوافقات السياسية التاريخية والعقلانية، المطابقة لإشكالاتنا السياسية والتاريخية.
يتعلق الأمر في موضوع أسئلة الحداثة السياسية في الفكر العربي، بالتفكير في ضرورة مراكمة رأسمال رمزي يوطن مشروع الحداثة في فكرنا، لتعزيز فرص التحول الديمقراطي بإسنادها نظريا، وذلك بفتح نقاش معمق حول مجموعة من الأسئلة، من قبيل: كيف يمكن تفكيك سقف القيم السياسية المنتشرة والمهيمنة في المجال السياسي العربي؟ ما هو دور التربية والتعليم في تفكيك الأنماط والبنيات الفكرية التقليدية السائدة؟ كيف يمكن بلورة وتطوير ثقافة ديمقراطية في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية؟
تفتح هذه الأسئلة موضوع الديمقراطية على فضاء التاريخ، إنها تفتحه على الفكر الديمقراطي، فكر الحداثة السياسية، لا لنقوم بنسخه، بل لنعمل على إعادة بنائه في ضوء الخصوصيات المحلية، والإشكالات المرتبطة بها. ونحن نعتبر أن نجاح المعارك الديمقراطية في الجبهة السياسية والاجتماعية والثقافية مرهون بتوسيع دائرة النقاش في الجبهات الأخرى، وفي الأزمة العميقة التي تعاني منها الأنظمة التسلطية في أغلب البلدان العربية، ما يؤكد أهمية التفكير في أسئلة الحداثية السياسية في الفكر العربي، وأسئلة التحديث في الواقع العربي.
تتيح أسئلة التفكير في رسم حدود ومعالم المجال السياسي في الفكر العربي، إمكانية التخلص من كثير من الظواهر التقليدية الموروثة، حيث تنصب هذه الأسئلة على أشكال الاختلاط والتداخل القائمة في الفضاء السياسي العربي.
إن الدفاع عن استقلال المجال السياسي، ومحاولة بناء وترتيب المكونات المحددة لملامح هذا المجال وبصورة عينية، تجعلنا نفكر في إشكالات فلسفية هامة، من قبيل أشكال التقاطع القائمة بين المجال الأخلاقي ومجال القيم السياسية، تقاطع المقدس مع السياسي،
وعندما نضيف إلى هذه القضايا النظرية الكبرى الأسئلة الفرعية المتعلقة بالصراعات السياسية الاجتماعية والثقافية القائمة في الواقع، في مستوى مواجهة التأخر التاريخي المتواصل نتأكد من درجات الاختلاط الحاصلة، ونتبين أهمية الأسئلة المرتبطة بموضوع تعيين قسمات وملامح الفضاء السياسي في الفكر العربي المعاصر.
فالتطور الديمقراطي الناجح المستند على زيادة ورفع مستوى الوعي السياسي لقيم المشاركة السياسية الديمقراطية والبناء القانوني والمؤسساتي لمجتمع الدولة، يحتاج إلى مجتمع قوي ناضج، وذلك لا يتعارض على هذا النحو مع وجود دولة قوية، بل على العكس يحتاج نجاح التطور الديمقراطي إلى وجود دولة قوية ولكنها منفتحة وحديثة. على أن ما نقصده من وجود سلطة قوية للدولة هنا، ليس بمعنى ممارسة التعسف والإكراه واستخدام القوة والقهر، وإنما سلطة قوية تمتلك عناصر قوتها من الشعب الذي يدعم هذه الدولة. بمعنى آخر أن تعمل الدولة مع المواطن في تحقيق الأهداف، ومنها الديمقراطية.
فضعف الدولة يمكن أن يؤدي إلى تدعيم الانتماءات الأولية العشائرية والعائلية والطائفية، أي الانتماءات الأدنى من الانتماء للدولة. ولا شك أن شيوع هذه الانتماءات يقلص احتمالات التطور الديمقراطي لأنها ترتبط بثقافة غير ديمقراطية، تقوم على التعصب وليس على التسامح، والانغلاق لا الانفتاح، والجمود بدلاً من المرونة.
الديمقراطية ليست مجرد مؤسسات سياسية أو انتخابات أو تعددية حزبية، بل هي أيضاً تحولات عميقة في بنية المجتمع، وفي الثقافة السياسية السائدة، وبالتالي فالديمقراطية هي عملية بناء وتأسيس تبدأ بالإنسان أولاً، وهذا يعني أن مقاربة الديمقراطية في بلد ما، يجب ألا تقتصر على الصورة الخارجية للمؤسسات السياسية، بل يجب الغوص داخل البنى العميقة للمجتمع وقواه الفاعلة الظاهرة والخفية، للتعرف على ما إذا كانت تمثل قيم الديمقراطية أم لا.
الديمقراطية نهج وأسلوب يُتبع سواء داخل مؤسسات الدولة لتوسيع رقعة الحريات السياسية وتعزيز المشاركة الجماهيرية في صناعة القرار، أو داخل المنظمات غير الحكومية وفي الحياة العامة وفق ضوابط محددة. وهذا بدوره يسهم في خلق ثقة مشتركة بين الدولة ومجتمعها، ويساهم في تطور كلا الطرفين، ويساعد في تقوية بناء المجتمع، ويحد من ضعف الدولة التي يجب النظر في كثير من أدوارها بعد التحولات التي طرأت على دورها ووظيفتها في المجتمعات.
الديمقراطية ليست صندوقاً انتخابياً يفرز أكثرية تحكم وأقلية تقبل بالنتيجة. هذا وصف تبسيطي لا يحقق حكم الشعب. الديمقراطية هي مجموعة قيم إنسانية مجتمعة يجب أن تتوفر كتعبير حقيقي عن مفهوم الديمقراطية، وتتمثل باحترام حقوق الإنسان وحريته، وبالعدالة الاجتماعية، والفصل بين السلطات، والمساواة، وحرية الرأي والمعتقد، وإذا تم انتقاص إحدى هذه القيم فالديمقراطية تكون عرجاء.
لذلك نرى أن دولاً تطبق الديمقراطية ولكن بشكل معطوب، كما أن دولاً تستخدم الديمقراطية وسيلة للتدخل في شؤون الدول الأخرى أو لغزوها كما فعلت الولايات المتحدة في العراق، وهناك دول دكتاتورية أو ثيوقراطية ترفع الديمقراطية شعاراً لها. إضافة إلى ذلك، فإن شعوباً تمارس الديمقراطية الانتخابية وتختار ممثلين لها لا يؤمنون بالديمقراطية أساساً، كما حصل في العديد من الدول الأوروبية التي صعد فيها اليمين الشعبوي إلى السلطة، أو كما حصل في ألمانيا وإيطاليا في ثلاثينات القرن الماضي، عندما تم اختيار الأحزاب الفاشية والنازية التي قادت العالم إلى الحرب العالمية الثانية.
هناك أزمة فعلية تعيشها الديمقراطية، ما يقتضي إعادة النظر في هذا المصطلح، واستحداث قواعد جديدة تزيد من المساواة والعدالة الاجتماعية والحريات العامة المسؤولة لتحقيق التمثيل المقبول، وقبل كل شيء الوعي الشعبي بالديمقراطية بأن تكون جزءاً من ثقافته العامة.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان