لحظات الالتفات ومراكز التحول لدى الامم الحية والشعوب المتحضرة مرتبطة ارتباطا وثيقا بقوة الاشعاع المتولد عن الوعي الكامن والمتجذر في الاعماق ..الوعي القائد الى الابداع الذي لا يعرف الا الارتقاء ولا تثنيه اي رغبات او شطحات مهما كانت شدتها وقوة من يتبناها.
لذلك لم يكن غريبا ان تسمع ترددات احاديث واهازيج الوعي في اللحظات التاريحية المفصلية ومع كل حركة او محاولة للنهوض فالوعي هو اكسير كل تحرك ناجح وكل خطة عمل للانطلاق الحتمي الى الامام والدرع الواقي ضد حملات المغرضين والمسبطين والمرجفين في المدينة وخارجها ايضا..
الحديث عن الوعي وقضاياه لا يمكن ان يتوقف واذا حدث عطب او عطل مفاجئ لاي من الاسباب فكانك تتحدث عن ما يشبه الموت السريري اوالغيبوبة ولذلك عندما يتحدثون بعدها عن عودة الوعي او عودة الروح تشعر بظلال كثيفة من الفرح والسرور وبان روحا جديدة تضرب في الاوصال وان قوة دفع جديدة ورغبات لامحدودة في الانطلاق وهي لحظات لابد ان تستثمرها كل الشعوب الحية لتنفض عن نفسها غبارا اعمي رؤيتها ورانا خيم على قلبها وبصيرتها فعل بها الافاعيل.
دعوات التجديد هي واحدة من اهم محاور قضية الوعي وضبط الامور واعادة كل شيء الى نصابه الصحيح وفي الاطار الواجب اذا كنا نسعى حقيقة نحو انظلاقة حضارية وصحوة تجدد الامل بل وهي تحي موات امال عراض وتطلعات نحو استعادة امجاد وسؤدد في عالم كان للمسلمين فيه كلمة الفصل وفضل السبق في كل العلوم والمعارف كل ماله علاقة بالرقي الانساني والارتقاء الحضاري والتى يحاول الكثيرون بجهد جهيد طمس معالمه والقفز فوق كل التواريخ ومعالم البناء الحضاري على مر العصور وسحب الواقع المرير حاليا على كل فترات التاريخ الاسلامي بل وتحميل الاسلام نفسه كدين وعقيدة اسباب الهزائم والانكسارت دون تفرقة بين الدين وسلوك بعض المسلمين في فترات معروفة ومعلومة من التاريخ ودون اعتبار للهجمات والحملات المغرضة والحروب الطاحنة التى تخوضها ولا تزال قوى بعينها ضد المسلمين ومن قبلهم الاسلام كدين وعقيدة.
ولعل هذا ما القى بظلال ليست هينة على معركة التجديد التى تدور رحاها على الساحة منذ سنوات.. حيث التركيز فقط على التجديد في المجال الديني وكانه كارثة الكوارث وام القضايا وام العارك! والخطر هنا هو الايحاء بان الدين وراء الكارثة والايحاء ايضا انه ليس منقذا والايحاء ايضا بان تخلوا وتحللوا من دينكم.. رسائل قوية وان بدت غير صريحة احيانا الا انها مع هبوب رياح السموم تتكشف وتكشف عن ساقيها بلا خجل ولا حياء ولامراعاة لاي حرمة من الحرمات.
وهؤلاء واولئك سواء من المتحمسين للتجديد او من الخائفين منه وعليه يتناسون اهم واخطر نقطة في قضية الوعي وهي انه مسألة عامة وشاملة والتجديد يشمل كل المسارات في الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والتعليمية والتربوية وغيرها.. حلقات اشبه بحلقات السلسلة كل واحدة تؤدي الى الاخرى ومرتبطة بها ارتباطا وثيقا لا تستغني حلقة عن الاخرى والا انفرط العقد وضاعت كل الحلقات في صحراء التيه والانحلال والتحلل والافراط والتفريط..والا فما جدوى “اذا كنت تبني وغيرك يهدم”.
من هنا استوقفنى هذا العنوان المهم واللافت لكتاب زميلنا العزيز الكاتب الصحفي الكبير مؤمن الهباء..” تجديد الوعي الديني” وهو رجل صاحب فكر ورؤية اسلامية مستنيرة عاصر وتفاعل بقوة مع حركة الفكر الاسلامي متابعا وراصدا بدقة وجرأة اخطاء وخطايا حدثت على الطريق ودعم واشاد بمواقف اصيلة لاصوات مهمة على الساحة الاسلامية لعلماء كبار وثقات على مدى العقود الاخيرة اضافة الى رصد حركة المناوئين للفكرة الاسلامية وتياراتها المعروفة واللاعبين على كل الحبال في الداخل والخارج..
تجديد الوعي الديني أظنه جاء معبرا وكاشفا بل ويميط اللثام عن كثير مما وراء الاكمة فيما يخص عملية وفكرة التجديد ومن يعتبرون انها قضية موت لا حياة لاهداف وافكار كانوا يحلمون بها على مدى اماد بعيدة وبين المهمومين حقيقة بقضية الاصلاح عموما بما فيها الشق الديني وهذا امر مهم للغاية وتاثيره لا ينكره وله موجات ارتدادية لا يمكن حسابها او حتى التنبؤ بها اذا خرجت الامور عن مسارها الصحيح او تمكن اللاعبون والمتلاعبون من السيطرة وتضييق الخناق على حركة التدين الصحيح والمتدينين بجد.
اهمية الكتاب الصادر عن سلسلة كتاب الجمهورية الشهيرة والواقع في حوالي مائتين واربعين صفحة من الحجم المتوسط ان المؤلف نجح بذكاء في ان يرسم خريطة حقيقية وصادقة من ارض الواقع لحقول الالغام الخاصة بقضية التجديد في المجال الديني ويجعلك تتلمس الاشواك الموجعة في حقول الوعي ويكشف اللثام ايضا عن النيران الصديقة في الميدان وما اكثرها واشد لسعاتها وما اصعب قسوتها بسبب استخدامها وتوظيفها من قبل جبهات الرفض في اشعال النيران واثارة المزيد من الفتن..
بعين الصحفي الخبير المحقق والمدقق يقودك الاستاذ مؤمن الهباء بسلاسة وشياكة ايضا الى الدهاليز والى صفحات التاريخ القديم والحديث وهو يقلب في قضايا الساعة ليصل بك الى النتيجة الطبيعية والرد البديهي على اسئلة عديدة في مسائل حائرة ومحيرة احيانا تكاد تدور حول الاخفاق في حملات التجديد المعاصرة والتى يعلو فيها الضجيج والصراخ دون ان ترى طحنا بل لا نبالغ اذا قلنا انها تزيد الطين بلة او تلقي بالمزيد من الزيت والبنزين على النيران المشتعلة ابتداء من اسئلة الهوية التى لايريد ان يجيب عنها احد ولا يريد الا ان يلوي عنق الحقائق لاغراض في نفس يعقوب واتباعه ومرورا باباء التجديد ولماذا نجحوا حيث اخفقنا ولماذا لم تشغلهم تلك القضايا التى ينثرها الحداثيون كالغبار في وجه العالم والحقيقة.
وعن غير قصد ربما لا تشعر الا بوخذ الاشواك في الطريق الموضوعة عن عمد والمصنوعة خصيصا لافساد اي رغبة او نية او توجه حقيقي نحو الاصلاح فتجد نفسك في مواجهة جادة مع العبث بالدين وفي الدين وباسم الدين وهي قضايا مهمة ومتجددة وحذر منها كل الائمة الاعلام على مر العصور..
لعل من اخطر الاشواك واشدها الما وايلاما تلك الخاصة بما اسماه الهباء بالمصادرالسيئة للتثقيف وممحاولات صناعة اسلام آخر تحت راية التجديد في الدين واشار بكل اصابع لاتهام الى الخطاب العبثي سواء في الفضائيات الاعلامية اياها او في بعض المنظومات الثقافية والتى اعتبرها تقود حملات منظمة لتشويه الاسلام وتجريحه والشغب عليه حتى في بلاده وبين اهله وبجرأة غير مسبوقة في التاريخ.
في محاولات تجديد الوعي المعركة مزدوجة على جبهتين من الخطورة بمكان غض الطرف عن احداها: جبهة التنظيمات الارهابية التى تشوه الاسلام بالانتساب اليه زورا وبهتانا.وجبهة التنظيمات العلمانية التى تسعى جاهدة وتريد تغيير الدين املا في وضع دين جديد..ويخلص المؤلف الى اقرار حقيقة مهمة وهي ان العابثين بالعقول ومثيري الفتن لايقلون خطورة عن الارهابيين القتلة حملة السلاح والمفجرات ويمارسون كل انواع التدمير والتخريب.
لم يغفل المؤلف بيان خطيئة الانحياز الى تيار العلمانية المتطرفة وتبنيها وماتركه من اثر سيئ على حركة الوعي العام خاصة بعد افساح المجال العام لمنتسبي التيار ومنحهم الصدارة في المواقع المختلفة وتوفير ما يشبه الحماية والحصانة لافتراءاتهم الى جانب التساهل امام حركات الانتهازية العلمانية واستغلال المواقف والاحداث المهمة لتحقيق اغراضهم ونفث سمومهم.
بعد قراءتي للكتاب ادركت سر ذلك الحماس لصديقي العزيز سيد حسين للكتاب واصراره على ان يصدر حتى بعد ان ترك مسئولية كتاب الجمهورية ويكتب مقدمة ضافية عن االمسئولية التاريخية والامانة الاخلاقية للصحفي المسلم.
هذه اشارات سريعة لاضاءات كثيرة نجح الاستاذ الهباء في اطلاقها عبر كتاب جدير بالقراءة.وما احسبه الا دعوة صريحة لاستكمال بناء المشروع القومي الكبير لبناء الوعي اولاستعادته على وجه الدقة..
والله المستعان ..
Megahedkh@hotmail.com