إن ترسيخ حب الوطن وفق مفاهيم حديثة مناسبة للأحداث الراهنة، وذلك لأجل مواجهة التحديات المحيطة بنا، : لم يجر مصطلح الوطن على ألسنة الأدباء والشعراء العرب قديمًا، وإن ذُكر فقد كان يعني المنزل أو مكان العيش، أمّا مفهوم الوطن ـ كما هو معروف اليوم ـ فلم يكن موجودًا في الجاهليّة أو في العصور الوسطى،
وإنّما بدأ ظهوره خلال القرن التاسع عشر عندما نما الحسّ القومي عند العرب، وعرفوا هذا المفهوم من الثقافة الغربيّة التي بدأت تغزو الشرق برمّته. ومع تطوّر الأحداث السياسيّة والاقتصاديّة في العالم العربي، ومحاولات بناء الأوطان القوميّة على أساس الحدود القطريّة، واستشعار سقوط هذه التجارب لاحقًا، تطوّرت نظرات الشعراء إلى الوطن والانتماء، فجاءت نتاجاتهم الأدبيّة معبّرة عن هذه الأفكار.
ومن النماذج التي يمكن أن يدرسها الباحث الشاعر “سعيد عقل” وهو لبناني يتماثل فكره مع الاتجاه الذي كان يحاول أن يبني وطنًا على أساس القوميّة اللبنانيّة، فجاء البناء ثقافة جماليّة لا تمتّ إلى الواقع بصلة، ولا يمكنها أن تغيّره. والنموذج الثاني هو “أحمد مطر” وهو شاعر عراقيّ استشعر إخفاق المشاريع الوطنيّة في العالم العربي المعاصر، فجرى شعره نقدًا تهكّميًّا في هذا الإطار،
وبذلك يكون قد نقد الانتماء على أساس المصالح المشتركة في العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة دون أن يحاول تغيير البناء الثقافي للوطن. أمّا الإشكاليّة التي يحاول هذا البحث أن يدرسها فهي العلاقة بين تطوّر مفهوم الوطن وتطوّر حس الانتماء من جهة، والتعبير عن هذا الشعور أدبيًّا ومدى انتشار هذا الأدب في المجتمع من جهة أخرى،
ومدى تأثيره في المجتمع. ومن خلال دراسة شعر كلّ من “سعيد عقل” و”أحمد مطر” يفترض الباحث أنّه يمكن أن يصل إلى نتيجة تربط بين حس النهوض، والتعبير عن البناء، وتفجّر الشعور بالانتماء إلى وطن ما زال صورة في الخيال، وحس الإذلال وضياع الوطن الحقيقي في وجدان الأمّة بعد أن خسرت شعور الانتماء من خلال التجارب العربيّة الفاشلة في بناء الأوطان.
ومن تلك المفاهيم:
1 – إبراز معنى مفهوم الدولة للناس عموماً وللناشئة خصوصاً، وأن لا وطن بدون دولةٍ راسخةٍ تقف من جميع الناس بأعراقهم وأديانهم وطوائفهم ومناطقهم كافة بمسافةٍ واحدة، وكذلك إبراز أن هذه المفاهيم والتجليات هي من ثوابت سياسة
2 – الوطن بترابه وأرضه والدولة بقيادتها وأمنها وأنظمتها أولاً وقبل كل شيء، فلا أمن ولا استقرار ولا رغد عيشٍ إلا بوطنٍ تحكمه دولة، وعلى ذلك يجب الحذر من كل الشعارات الأيديولوجية التي تستخدمها الجماعات المتطرفة الإرهابية لأجل زعزعة مفاهيم الدولة الحديثة والمواطنة الصالحة، فجماعة الإخوان المسلمين -على سبيل المثال- تستخدم شعارات (الأمة) لأجل زعزعة مفهوم الوطنية والدولة الحديثة، فقد تمَّ استغفال الكثير من الناس والشباب بمفاهيم أممية كاذبة وخادعة باسم (الأمة)، بل تمَّ تدمير الكثير من البلدان العربية، وقت ما يسمى بالربيع العربي تحت هذه الشعارات البراقة.
3 – حماية البلاد من جميع المهددات العنصرية العرقية، والطائفية المذهبية، والمناطقية الفئوية، فالأوطان تفسد وتخرب بانتشار مثل تلك المهددات.
4 – حماية البلاد من الجماعات الحزبية المتطرفة التي تحاول اختراق المؤسسات الرسمية والاجتماعية والدينية والخيرية للدولة، فمن المعلوم أن هدف هذه الجماعات هو خلخلة الأمن الوطني ونشر الحزبية المقيتة، واستبدال المفهوم الحزبي الأممي بدلاً من المفهوم الوطني ، وهذا ما حاولت فعله جماعة الإخوان المتطرفة في بلادنا وفي غيرها من البلدان العربية.
منذ بدء الأوطان في التاريخ، وهناك اصطلاحات ومقولات عن الوطن وحُبِّه والمواطنة. ولكن مفاهيمها “التطبيقية” تغيَّرت على مر الأزمان والأوطان. وإذا كنا نتحدث عن الوطنية ومصدرها واشتقاقها وتغيّرها،
فلا بد من معرفة أن هذا التغيُّر أيضاً لا يلغي مطلقاً جوهرها ومعناها الحقيقي، ولكنه يحدِّدها بإطارات قد تكون فلسفية وجغرافية مختلفة.. ومن ثم يخرجها عن السياق التقليدي إلى سياق مستحدث تم تكوينه بفعل المتغيرات التي تحدث في العالم.
“كثيرون” عرفوا الوطنية وخافوا من الانزلاق في حساسية التعبير عن مترادفاتها. فالشعور المتنامي الزائد عن الحد في الانفعال يخلط الأوراق بين الانفعال الحقيقي والافتعال الزائف. وكثيرون تشدّقوا بحب الوطن، وهم ليسوا كذلك على أرض واقع وطن.. “فلا تنخدعوا بنظرات الحنين الزائفة في وجه من يتظاهر بالوطنية، وهو غير ذلك!” هكذا قال أبو الأدب الأمريكي مارك توين، وهكذا عبَّر عن حبه للوطن.
وهناك من تخاذل في حب الوطن وأبحر في خلق الأوهام والأعذار وهو مكشوف، بل مخطئ بائس.. وهناك وطنيون “حقيقيون” يتنفسون حُبّ الوطن ويعيشون على أمجاده، لكنهم منفعلون ثائرون لا يقيمون للعقل والمنطق مكاناً بين مشاعرهم المخلصة السخية!
التعبير السائد عن حُبّ الوطن مفهوم ناشئ من العمق الحقيقي للتفاني من أجله، لتنشأ العاطفة التي تُلهم المواطن بما ينبغي له أن يقدِّمه لوطنه في كل المجالات، ثم تتكوَّن حالة الانتماء “القصوى” التي تجعل الفرد على استعداد كامل للتضحية من أجل الوطن ومن أجل المجتمع ورقيّه، تحدها المصلحة العامة بمنأى عن “شخصنة” الوطن.
فحُبُّ الوطن ليس تعبيرات رمزية لحظية، أو شعارات وصوراً وأعلاماً تبرز في يوم من أيام السنة، أو عبر يوم إجازة رسمية، أو برنامجاً إذاعياً مدرسياً أو إخبارياً، بل هو ثورة ذاتية ملتهبة في النفس، تصدر من عمق الأرض ورحمها، فترسلُ أشعة نورها إلى القلب، فتحرِّك حرارتُها الأعضاء وتنير أمامها سبيل الحياة..
تلك الوطنية والوطن، المصطلحُ الرائج بين الأمم والحضارات والشعوب على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وأديانهم ومذاهبهم، يتغنَّون بنشيده، يمجِّدون تاريخه وأمجاده، ويصطبغون بلون ترابه وطهره، يرسمون بسمة فخر ونشوة فرح واعتزاز غامر “مستديم” يحتّم علينا تفهمه وتشبعه وإرضاعه للأجيال.
يقول أكبر روائي الأدب الروسي والأدب العالمي ليو تولستوي: “لا ينبغي لنا أن نحب الوطن حباً أعمى، فلا نرى عيوبه ولا نسعى لإصلاحها أو مواجهتها في الواقع”. وتلك دائرة مهمة، تحتاج منا البدء بمعالجة “أنفسنا” أولاً، ثم محيطنا، ثم ننتقل إلى كل رقعة على أرضه وذرة في ترابه، نفتش عن العيوب التي أوجدناها ومشكلاته التي ورثناها ونبحث عن الحل كقضية تهمنا كمجتمع وليس كأفراد.
لأن الوطن يبدأ من حيث ينتهي الفرد، ويبدأ بحلم كبير يستوعب أحلام الجميع، وتلك بديهيات نعرفها، وحان وقت تحويلها من مقولات نردِّدها بيننا وبين أنفسنا، وشعارات نتعاطف معها ونؤيدها.. فنحن دائماً نريد الصلاح والإصلاح، والأمن والأمان، والتقدُّم والرفاهية للوطن ولا يمكن أن نحقق ذلك من دون يقظتنا وإخلاصنا لرغبة كل منا دائماً في تغيير الواقع للأصلح والأفضل بطرق واعية متزنة.
المواطنة الصالحة هي أن يسعى الإنسان قدر جهده وفي مجاله ومسؤوليته إلى التغيير نحو الأفضل في وطنه ودفع الضر عنه بمقتضى العلم والعمل انطلاقاً من ثوابت الدين والعقل والحكمة.
بقي علينا نحن أن نسعى بعطاءاتنا وإخلاصنا وأكثر إلى التغيير بإيمانٍ ثابت، وبمقتضى الروح والعلم، والعمل لحاضر الوطن ومكتسباته، ليبقى وطننا ساحةً خضراء، نقيّاً من الشوائب كما ورثناه. كما علينا مبادلة الوفاء انتماءً وولاءً حتى يكون أنموذجاً في البناء والتشييد بطريقة واعية ترى الأمور في نصاب لا تحيد أبداً عنه؛ لننعم في ظله الوارف خلوداً، وننشد قيثارة الأرض وزغرودة الوطن “للمجد والعلياء”.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان