ارتبط التقدم الحضاري منذ فجر التاريخ بقدرة المجتمعات على تحقيق تقدم واضح في العلوم المختلفة، التي تساعدها على التطور وتثبيت أركانها ورفاهية شعوبها، ويظهر ذلك جليا في وقتنا الحاضر الذي تتراكم فيه المعرفة ساعة بعد أخرى، وما كانت تحتاجه البشرية لقرون أو عقود أصبح يتحقق في سنوات معدودة.
ولم تكن مصر بعيدة عن إدراك أهمية التقدم العلمي، لكن هذا الإدراك الذي يظهر بشكل واضح في البيانات والإحصاءات الرسمية، لم ينعكس بشكل رئيسي على قيام الحكومة بتبني استراتيجية تجعل البحث العلمي «قاطرة للتنمية»
على غرار العديد من الدول التي جعلت الإنفاق على التعليم والبحث العلمي أولوية على أوجه الإنفاق الأخرى، وظهر ذلك في انخفاض ملحوظ في عدد الجامعات المصرية في ترتيب أفضل ألف جامعة على مستوى العالم، حيث لم تضم التصنيفات المختلفة لأفضل ألف جامعة على مستوى العالم سوى 5 جامعات فقط، وهي القاهرة والإسكندرية وعين شمس والمنصورة والجامعة الأميركية.
إذا كنت تظن أن البحث العلمي يعطيك حرية أكثر من الوظائف الأخرى فذلك ليس صحيحا تماما وليس خطأ أيضا، صحيح أن العمل في البحث العلمي يعطيك حرية في التفكير والتخطيط وعمل التجارب (إذا كنت تعمل في فرع عملي) ولكن اختيار المشكلة البحثية التي تعمل بها قد لا يكون بيدك،
لو أنك تعمل في معمل أبحاث لشركة فأنت مقيد باستراتيجية الشركة وقد لا تستطيع نشر كل أبحاثك نظرا للتنافسية بين الشركة وسرية الأبحاث، حتى إذا كنت تعمل في جامعة فاختيار المشكلة البحثية يعتمد ليس فقط عليك
ولكن على من يمول أبحاثك (إذا كنت تحصل على تمويل لأبحاثك) أو على الإمكانيات المتاحة لك (قد تود العمل في مشكلة بحثية معينة ولكنك لا تمتلك الإمكانيات اللازمة). إذا فحريتك مقيدة ما لم تكن تعمل في أبحاث نظرية في جامعة ولا تحتاج أجهزة أو طلبة ولديك الوقت الكافي. العمل في البحث العلمي من أجل مساعدة البشرية أمر نبيل
ولكن لنكن واقعيين فلسنا ملائكة وتنازعنا مشاعر أخرى كثيرة مثل حب الظهور كما ذكرنا والحصول على المال والترقي في العمل.. إلخ ولكن العلم كما يقول أستاذنا الدكتور مشرفة هو البحث عن الحقيقية فإذا كان هذا هدفنا حتى لو كانت لنا مآرب أخرى فهذا يكفي وجيد. أما من حيث المال فعادة من يعمل في الصناعة يحصل على مال أكثر من البحث العلمي!
ورغم أن الدستور المصري ينص على ضرورة توفير التعليم الجامعي وفقاً لمعايير الجودة العالمية، وأن الدولة تلتزم بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم الجامعي لا تقل عن 2 في المائة من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وأن الدولة ترعى الباحثين والمخترعين، وتخصص لهم نسبة من الإنفاق الحكومي لا تقل عن 1 في المائة من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية، وتكفل الدولة حرية البحث العلمي وتشجيع مؤسساته، باعتباره وسيلة لتحقيق السيادة الوطنية، وبناء اقتصاد المعرفة، فإن النسبة الفعلية لهذا الأنفاق تقل كثيرا عما ينص عليه الدستور.
وفيما تشير إحصائية الإنفاق العالمي على البحث العلمي لعام 2019 إلى أن الولايات المتحدة أنفقت 517 مليار دولار، بنسبة بلغت 2.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، كما أنفقت إسرائيل 16.5 مليار دولار بنسبة 4.9 في المائة من الناتج المحلي، فقد بلغ ما تنفقه مصر على التعليم الجامعي والبحث العلمي معا نحو 32.5 مليار جنيه (نحو ملياري دولار)، وهي نسبة لا تزيد عن نصف في المائة من الناتج المحلي، يذهب أغلبها على شكل أجور في الجامعات والمراكز البحثية.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن أغلب الشهادات العلمية (الدبلوم، والماجستير، والدكتوراه) لعام 2019 تركز على الدراسات الأكاديمية والنظرية بعيدا عن الدراسات التطبيقية العلمية، حيث كانت نسبة الأعمال والتجارة 18 في المائة، والتعليم 32.4 في المائة، والخدمات 1.2 في المائة، والزراعة والأسماك والبيطرة 2.7 في المائة، والعلوم الاجتماعية والصحافة والإعلام 1.3 في المائة، والعلوم الطبيعية والرياضيات والإحصاء 6.8 في المائة، والفنون والعلوم الإنسانية 13.2 في المائة، فيما تبلغ النسبة في مجالات الهندسة والتصنيع والبناء 7.4 فقط ، وفي مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات 0.9 في المائة فقط.
كما كشفت الإحصاءات، التي نشرها المركز القومي للتعبئة العامة والإحصاء، عن تغيير ملحوظ في بنية «هيكل أعضاء هيئة التدريس»، حيث زاد عدد عضوات هيئة التدريس للمرة الأولى عن أعضاء التدريس، حيث كشفت الإحصائية أن عدد أعضاء هيئة التدريس للعام الدراسي (2019- 2020) بلغ 128181 عضوا، منهم 63910 من الذكور بنسبة 49.8 في المائة، مقابل 64271 من الإناث بنسبة 50.2 في المائة للمرة الأولي في تاريخ الجامعات المصرية، فيما كانت هذه النسبة في العام الدراسي السابق عليه 51.4 للذكور، مقابل 48.6 في المائة للإناث.
يعرف الجميع الفرق بين الهواية واحتراف مهنة ما، ولكن هناك حالة ثالثة ربما يُجبَر عليها محترف المهنة عندما يؤديها كهاوٍ نتيجة عدم قدرته على ممارستها بالشكل الصحيح، قد ترجع أسباب ذلك إلى عدم توفر ما يحتاجه من أدوات لممارستها، وقد يرجع أيضًا إلى عدم قدرته، أو عدم تعلُّمه توظيف ما هو متاح.
في مجال التصوير الفوتوغرافي مثلًا، هناك مَن هم موهوبون لدرجة كبيرة تؤهلهم أن يكونوا مصورين محترفين، لكن ربما لعدم القدرة على شراء آلات تصوير حديثة، أو لعدم تعلُّم كيفية الاستفادة القصوى مما يمتلكون من آلات تصوير. يكتفي هؤلاء بممارسة التصوير على سبيل الهواية، رغم ما يمكن أن يحققوه لو أنفقوا بعض الوقت أو الجهد أو المال.
قد يبدو هذا المثال بسيطًا جدًّا وساذجًا إذا استخدمناه لقياس مشكلة معقدة كمشكلة البحث العلمي في مصر، فأزمة البحث العلمي في مصر يمكن للعاملين في المجال إدراكها وتعريفها بسهولة، بل ربما يمكن لبعضهم اقتراح حلول لها، إلا أن وضع يدهم على المشكلة ومعرفة الحلول لا يغير من الأمر شيئًا، وبالتالي تظل ممارسة البحث العلمي أشبه بهواية وليست احترافًا.
وكعادتنا، بعد أي حدث كبير، يُثار الجدل حول قضايا معينة ترتبط بهذا الحدث، ويزأر البعض هنا وهناك، وربما يصدر قرارًا أو قرارين لحفظ ماء الوجه، ثم ينتهي الموضوع بإغلاقه حتى موعد آخر قادم للحديث فيه مرة ثانية.
وفي الحقيقة، يتوفر في مصر بعض مقومات قيام قاعدة للبحث العلمي، فمثلًا تتوفر تقريبًا كل الأجهزة الحديثة التي يمكن بها إنتاج بحوث جيدة، لكنها موزعة بشكل غريب ولا يعلم بقية الباحثين عنها إلا بالصدفة، ولا تجري صيانتها. وفي الغالب فإن الافتقار إلى الرؤية لدى البعض يعطل هذه الأجهزة بعد فترة، فتصبح كأنها غير موجودة.
كما توجد أجهزة مؤسسية تابعة لوزارة ما ذات صلة بالبحث العلمي أو لأكاديمية البحث العلمي، يمكن لها أن تصدر قرارات وتتابعها، إلا أنها –للأسف- تتميز بالبطء الشديد وعدم الحِرفية في التعامل، ولا تقوم بدورها في متابعة ما تموله من مشروعات، بل تكتفي بتقارير شكلية، وتتحجج بالمشاكل الإدارية ونقص المال ونقص العاملين. هناك أيضًا أكاديميون وباحثون أقاموا مشروعات بحثية مع شركاء في الغرب، وحصلوا من خلال ذلك على دعم مناسب. إذًا هناك بالفعل ما يمكن أن يوجِد تلك القاعدة العلمية المطلوبة ويقويها، إلا أن التشتت الشديد الذي يتميز به الكثير من العاملين في المجال وعدم وجود إدارة جيدة لتلك الموارد يهدم تلك القاعدة تمامًا. ولكي يمكننا بناء تلك القاعدة نحتاج أولاً إلى نوع من المركزية لتجميع كل تلك الأدوات باهظة الثمن، وضم معامل القياسات المتفرقة كلها تحت منظومة واحدة، وتعريف الجميع بها من خلال موقع إلكتروني ونشرات دورية لوفائها بالغرض، وفي نفس الوقت تشجيع المعامل الصغيرة للتعامل مع تلك المعامل المركزية من خلال وضع برامج صارمة لإنتاج عدد معين من البحوث في وقت محدد في اتجاهات معينة. هذا ما فعلته البرازيل لتنهض بالبحث العلمي في وقت قياسي.
كما يجب أن تُدار تلك المعامل المركزية بشكل دقيق، لا من خلال أساتذة في الجامعة أو مراكز البحوث، بل من خلال فنيين يتم الإنفاق على تدريبهم تدريبًا عاليًا ومُتقَنًا، سواء في الخارج أو باستقدام خبراء، فالفني هو مَن يجب أن يتم الاهتمام بتدريبه على تشغيل وصيانة الأجهزة العلمية الدقيقة، وهو مَن يجب أن يُعلِّم الباحثين استخدام الآلات أو إجراء بعض القياسات.
وهذا يأخذنا بالطبع للجانب السيئ المُتوارَث، وهو النظرة الدونية من قِبل الباحث أو الأكاديمي للفني، وهي من المشكلات الاجتماعية التي أصبحت تراثًا لا يؤدي إلا إلى الفشل. وأتذكر هنا عندما أعلن الدكتور <مجدي يعقوب> في بداية إنشاء مركز القلب في أسوان عن حاجته إلى فنيين من خريجي كلية العلوم، فثار عليه نقيب العلمين ورفع عليه قضية لأنه اعتبرها إهانة، ولم يدرك سيادته في ذلك الوقت أن الفني في معامل البحوث في الخارج لا يقل قدرًا عن الباحث، وإذا أنجز شيئًا يضيف للبحث يوضع اسمه عليه إلى جانب مؤلفيه من الباحثين والأكاديميين، هذا طبعًا غير الجانب الإنساني الذي يُفترض أن يساوي بين الجميع، إلا أن موروثاتنا البالية ما زالت تجتث مبادئ المساواة من جذورها. حديثنا عن توفر المال ومركزية المعامل وحرية الباحثين والفنيين ليس كافيًا على الإطلاق لإيجاد حلول للمشكلة، لأن هناك مشكلات أكبر يجب أن تُحل، فمن أهم أدوات استمرارية البحث العلمي وازدهاره، توفر القاعدة الصناعية والشركات المنتجة التي تهتم بأن يكون لها وحدات بحثية خاصة، تمول البحث الخاص بمجال إنتاجها وتدعم باحثيه، وربما تساند منهم مَن يريد أن ينضم إليها بعد ذلك، أو تمول بحثه مقابل أن يعمل لديها إذا وجدت أنه سيسهم في زيادة نجاحاتها. فالعلم لا ينمو هكذا وحده من غير وجود مَن يحفزه ويستعمل نتائجه.
وفي أي مكان علمي ناجح، هناك دائمًا نوعان من المشاريع التي تعمل بالتوازي، المشاريع قصيرة الأجل التي يجب أن تُستخدم نتائجها في خلال ثلاث سنوات إلى خمس، وهذه غالبًا يمكن تمويلها من جهات صناعية تبحث عن حلول، ومشاريع طويلة الأجل تقوم على دراسة الأساسيات التي يمكن أن تؤدي إلى نظريات جديدة في خلال عشرة أعوام أو خمسة عشر عامًا مثلاً. ومن دون وجود هذين النوعين من المشاريع لا يمكن أن تثبت الأماكن البحثية أحقيتها في الاستمرار. وكما نعرف جميعًا، تلك القاعدة الصناعية وفكرة المغامرة بالمال غير موجودة في مصر على أي نطاق، ولن تُحل إلا عبر توجه حكومي لتوفير محفزات لإقامة مصانع منتجة بدلاً من شركات مستهلكة.
واحدة من أهم المشكلات، من وجهة نظري، هي مشكلة الباحثين الصغار الذين أرى منهم مَن لا يدرك أساسيات البحث العلمي، ولا معنى التعاون وتبادل الأفكار بحرية وعلنية مع الغير، ويكتفون بنظرة ضيقة جدًّا حول ما يجب أن يقوموا به من عمل. وللأسف لا يجد هؤلاء في كثير من الأحيان توجيهًا مناسبًا أو دعمًا معنويًّا أو ماديًّا ممن هم أكثر خبرة، هؤلاء من المفترض أن يقودوا الاتجاهات البحثية القادمة في المستقبل القريب، ونشأتهم بهذا الضعف مؤشر على تدهور أكبر قادم.
مشكلة أخرى من المشكلات الكبرى أيضًا، هي الافتقار إلى الوعي العام، بمعنى الوعي بالبحث العلمي وأهمية القائمين عليه، فمثلا: تجد الكثير يقول إن علماء مثل زويل أو مصطفى لم يفعلوا الكثير ويتحدثون كثيرًا، أما عالِم مثل الدكتور مجدي يعقوب فهو مَن خدم البلد، وهذا كلام ساذج يدل على عدم دراية بمعنى البحث العلمي، لأن الطبيب من الطبيعي جدًّا أن تظهر نتائج عمله -وربما علمه- سريعًا، لأنه يتعامل مباشرة مع مرضى ربما يتم شفاؤهم، أما بحثه العلمي لإيجاد العلاج فيأخذ الكثير من الوقت. والعالِم الذي يعمل في معمله لا تظهر نتيجة عمله إلا بعد العديد من السنين، وربما لا تظهر في حياته، لأن العلم تراكمي، بحوثه يكمل بعضها بعضًا.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان